بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله خالق الأرض والسموات، والشكر له سبحانه على أولانا من سابغ النعم، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له القائل في آياته البينات: ﴿وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ۙ وَرَسُولُهُ﴾، والقائل أيضًا: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ۖ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ﴾، وأشهد أن سيدنا محمدًا رسول اللهم صلوات ربي وسلامه وبركاته عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله وأطيعوه واذكروه ولا تنسوه، فلقد قال وقوله الحق: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾.
أيها الإخوة المؤمنون: لا يسعني في هذه الساعة المباركة إلا أن أنتقل بكم إلى أرض عرفات لنشهد معًا بقلوبنا وأرواحنا وخواطرنا وعواطفنا مشهد الحج الأكبر، حيث يحتشد المسلمون من حجاج بيت الله في أرض عرفات، وقد تجردوا من كل مظاهر المادة وشهوات الدنيا وجواذب الأرض وانعتقوا من سلطان الأهواء ورغائب النفوس، وأظهروا غاية الخضوع والتذلل بين يدي الله رب العالمين، وأقبلوا عليه بقلوبهم وأفكارهم وعواطفهم في جوارحهم يدعونه تضرعًا وخفية، سرًّا وجهرًا ويناجونه بألسنتهم وقلوبهم ودموعهم وجوارحهم، ورائدهم في ذلك قوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾، وقوله عليه الصلاة والسلام: «الدعاء هو العبادة»، وقوله: «ليس شيء أكرم على الله من الدعاء».
فتحسّ أخي المسلم وكأن كل ذرة من ذرات أبدانهم وكل خفقة من خفقات قلوبهم وكل دمعة تسيل من عيونهم قد أصبحت لسانًا ينطق، وفمًا يتكلم فيقول: (يا الله، يا رب العالمين، يا مجيب السائلين، يا قابل التائبين) فتتبدل أحوال العباد في ذلك الموقف العظيم والمشهد الرحيم الذي تتدفق فيه أنوار الهداية، وتتنزل فيهم شآبيب الرحمة ويزخر بالعفو والرضوان، حيث يفيض غيثًا من الواحد الديان الذي ينظر إلى عباده المؤمنين وهم يقفون في عرفات متجردين من مظاهر الدنيا ورفاهية الحياة، لا يبالون بشدة الحر ولا بوعثاء الوقوف، صغارًا وكبارًا، رجالًا ونساءً، ضعفاء وأقوياء، شيوخًا وشبانًا، الجميع على صعيد واحد وقفوا يسألون الله سبحانه وقد تصاعدت أصواتهم وارتفع بكاؤهم وزاد نحيبهم وتسامى دعاؤهم، فيتجلى الله تعالى برحمته وعفوه ورضوانه عليهم، وقد أشرقت في آفاق الموقف أنوار قوله الكريم: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ﴾، فينظر الله تعالى إلى حشد عباده وتضرعهم وابتهالهم، ويسمع بكاءهم ودعاءهم ورجاءهم، فيخاطب ملائكته كما قال عليه الصلاة والسلام: «إن الله يباهي بأهل عرفات أهل السماء فيقول لهم: انظروا إلى عبادي جاؤوني شعثًا غبرًا اشهدوا أني قد غفرت لهم».
وفي غمرة هذا الموقف العظيم الذي تتسامى فيه النفوس عن مستوى شهوات الدنيا وترتقي فيه القلوب والأرواح إلى بارئها الرحيم، يتخاذل الشيطان ويتصاغر وتتهاوى وسوساته وشروره، صريعة أمام صدق الدعاء وخالص التضرع والرجاء، فتشرق أرض عرفات بأنوار صلة قلوب المؤمنين بخالقها العظيم الرحيم، فلا يبقى فيه شبر ولا موضع قدم إلا وقد أصابه غيث عفو الله ورحمته.
فما يُرى الشيطان كما جاء في الحديث الشريف يومًا هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أغيظ ولا أحقر منه يوم عرفة، وما ذلك إلا مما يرى من تنزل الرحمة وتجاوز عن الذنوب العظام وذلك حين يفيض المولى سبحانه بكرمه على عباده الذين رفعوا أكفهم إليه ضارعين تائبين باكين، فيغفر لهم جميعًا، فما يكون يوم أكثر عتيقًا من النار من يوم عرفة، ويتطوَّل الله تعالى على عباده، فيهب مسيئهم لمحسنهم ويعطي محسنهم ما سأل، فإذا كانت عشية عرفة لم يبق أحد في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان إلا غُفر له، هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله أهل عرفة خاصة قال: «بل للمسلمين عامة».
أيها الإخوة المؤمنين: بسبب هذه الفيوضات الإلهية الغامرة والرحمات الربانية الوافرة التي تزخر في أجواء عرفات أعلن الرسول عليه الصلاة والسلام قائلًا: «الحج عرفة»، فإن قمة الخضوع والتذلل والضراعة والابتهال والدعاء الذي يشيع في مناسك الحج يكون في موقف عرفات، حيث يتحقق فيه الانصراف الكامل عن الدنيا وملذاتها وشهواتها والإقبال المطلق على الله رب العالمين، وهذا ما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «خير الدعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير»، وبقوله: «إن هذا اليوم من ملك فيه سمعه وبصره ولسانه غفر له».
فبادروا يا معاشر المؤمنين إلى اغتنام هذا اليوم المجيد، وأكثروا فيه من الدعاء والتضرع والرجاء واذكروا في غضون ذلك هموم أمتكم وقضاياها وآلامها، فهي مفتقرة إلى دعوة صادقة تنطلق من أعماق مخلصة، فتجيء الإجابة بلسمًا وشفاءً ورحمة ودواء لما تعانيه أمتنا في هذه الظروف العصيبة من حروب طاغية، ومحن باغية، وأوضاع أليمة، وهموم جسيمة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾.
اللهم ارفع البلاء عن جميع المسلمين وأصلح أحوالنا يا رب العالمين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فيا فوز المستغفرين والحمد لله رب العالمين.