بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى
الحمد لله الهادي عباده إلى سواء الصراط، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبد الله ورسوله الذي ربى أصحابه على الخير صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان على يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا، وبعد:
فإن العبادات هي شعار العقيدة وعنوانها، وهي أمسُّ بالدين من حيث هو دين الله، لكنها مع عظمتها في نظر الشارع هينة في العمل، ميسرة لمن أراد، لا تستغرق الأوقات، لا تصادمها شهوة النفوس، ولا تقع في تيار الغضب، فليس للقائم بها أن يفخر كثيرًا بقوة إرادته وضبط نفسه، وإنما تختبر الهمم وتبتلى العزائم في ميدان المعاملات، إذ هي أشد القسمين عناءً، بل هي أكثرهما حقوقًا في الدنيا، وأثقلهما حسابًا في الآخرة.
أما تشعب حقوقها في الدنيا فيكفي فيه المقارنة بين الوظائف التي يفرضها الإسلام على رجل مخالط للناس، والوظائف التي يفرضها على رجل آخر في عزلة عنهم ولا مراء في أن حقوق الاجتماع أشق وأكثر من حقوق الانفراد.
وأما صعوبة أمرها في موقف الحساب فلأنه لا نجاة منها إلا باجتياز عقبتين: عفو الله وعفو الناس. روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أُخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار».
لا عجب أيها الإخوة أن يوجه النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى ناحية المعاملات بهذا الأسلوب البليغ كأنه يقول: ليس الشأن أيها المسلمون في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان، فتلك وإن كانت أحقَّ الحقوق وأول الواجبات، إلا أن المهم هو السلوك مع الناس، أما الشأن الأكبر هو حفظ اللسان والجوارح وتحري الحلال والحرام من الأقوال والأفعال، تلك هي المهمة لا يضطلع بحملها أولو القوة الذين لا يأكلون أموال الناس، بل يكلؤونها، ولا يسفكون دماء الناس، بل يحقنونها، ولا يظلمون الناس شيئًا مما قلّ أو كثر، أولئك الذين إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا، وإذا مروا باللغو مروا كرامًا، وإذا ما غضبوا هم يغفرون، وإذا ما قدروا هم يعفون، وإن ذلك لمن عزم الأمور.
بل إن في الحديث ما يشير إلى معنى دقيق، فإنه يلوح بما فيه من الجناس البديع إلى أن هذه الشعبة هي الأصل في تسمية المسلم بهذا الاسم، وأن منها اشتق الإسلام، كأن معنى (أسلم): جعل الناس سالمين من أذاه وليس معناه فقط جعل نفسه سلمًا لله. وكم في حسن التعليل من إغراء على المسالمة وتحذير من المضار، إذ يجعل الذي يؤذي الناس وهو يحمل لقب الإسلام كأنه يحمل زورًا وينتحله انتحالًا وهو ليس له بأهل.
أيها الإخوة: إن الشهادة بوحدانية الله ونبوة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة والحج والصوم، كلها تتطلب سلوكًا وتطبيقًا خلقيًا عمليًا، ومن تمام كمال الإنسان المسلم أن تتطابق أقواله مع أفعاله، لذا اهتمت التربية الإسلامية بتكوين العادات السلوكية الحسنة عند الفرد لما في هذه العادات من أثر طيب في اكتساب الفضائل والأخلاق والبعد عن الشرور والرذائل.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أثر السلوك في الأخلاق عندما سمع نبأ امرأة كانت تكثر الصلاة والصيام والعبادة، ولكنها مع ذلك كانت سليطة اللسان سيئة العشرة تؤذي جاراتها بلسانها، فقال: «أخبروها أنها من أهل النار»، وسمع نبأ امرأة أخرى كانت لا تكثر من الصلاة، وتتصدق بالقليل، ولكنها كانت حسنة الخلق لا تؤذي جاراتها، فقال: «أخبروها أنها من أهل الجنة».
فالمسألة في نظر المربي صلى الله عليه وسلم ليست بالكثرة، بل بالغاية والثمرة، فُربَّ عبادة كثيرة لكنها لا تترك في نفس صاحبها من الأثر قليلًا ولا كثيرًا، وربما قَلَّت ولكنها تترك أعظم الأثر في سلوك صاحبها، وهذا واضح جلي من أن الرسول صلى الله عليه وسلم يهمه أن يتحول ما يتلقاه المسلمون منه إلى مواقف عملية وسلوكيات، وكان – وهو المربي – يثبت بالبراهين العملية والأمثال والتجارب الفعلية أن ما يدعو إليه أمر ممكن التنفيذ، وهناك الكثير من المواقف في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم تترجم هذا وتدل عليه.
إن التربية الحقيقية هي التي تحاول أن تجعل من العلم سلوكًا حقيقيًا، ومن الأفكار مواقف، والرسول صلى الله عليه وسلم يصور هذا فيما يروى عنه، فالعلم قبل القول والعمل، ولكن العمل ضروري، لا يكفي القول ولا العلم حتى الإيمان يعتبر عملاً.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وسلام على عبده الذين اصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله النبي الأمي الذي أوتي جوامع الكلم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد:
فإن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو قدوتنا كان يغتنم فرصة التصرفات العملية التي تقتضي توجيهًا تربويًا أو عمليًا ليأخذ منه المسلمون درسًا إيجابيًا، فكان يدعو إلى قيمة أو يصحح سلوكًا، أو ينفي هذا السلوك الخاطئ، وهي طريقة فعالة لأنها ترتبط بالوقائع والمشاهد وتتصل بما يعيشه الناس، وبهذا ترتبط القيم بواقع الحياة.
روى البخاري عن أبي ذر – رضي الله عنه – قال: كان بيني وبين رجل كلام، وكانت أمه أعجمية، فنلت منها فذكرني إلى النبي صلى الله عليه وسلم: فقال: «أساببت فلانًا»، قلت: نعم، قال: «أفنلت من أمه؟»، قلت: نعم، قال: «إنك امرؤ فيك جاهلية»، قلت على حين ساعتي: هذه من كبر السن؟ قال: «هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن جعل الله أخاه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا يكلفه من العمل ما يغلبه، فإن كلفه فليعنه عليه».
إنه نموذج فذ، يصور بعدًا تربويًا في عملية ترجمة القول والعمل إلى سلوك، هذه هي الأسوة والقدوة المتجلية في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم، والتي يجب نحن المسلمون أن نتحلى بها، وأن نعمل على ترجمة أقوالنا وأفعالنا إلى سلوك حسن حتى يصدق علينا وصفه تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾، ثم قال سبحانه: {أُولَٰئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا}.
اللهم قنا الفتن ما ظهر منا وما بطن، اللهم أصلح شبابنا وفتياتنا، وجنبهم الشهوة والشهوات، اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم اجمع كلمة المسلمين على الحق يا رب العالمين، اللهم إنا نبرأ إليك من كل من يفتن بلاد المسلمين، اللهم انصر عبادك الموحدين في كل بلاد المسلمين، اللهم احفظ هذه البلاد من كل سوء ومكروه وجميع بلاد المسلمين، ومن أراد المسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا ووفقهم بتوفيقك، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وتوفنا وأنت راضٍ عنا، واغفر لوالدينا ووالدي والدينا ولمن له حق علينا وللمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات إنك سميع الدعاء غفور رحيم، وصلوا على نبيكم نبي الرحمة والهدى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأزواجه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وقوموا إلى صلاتكم يغفر الله لنا ولكم.