بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى
الحمد لله حمد الشاكرين، والشكر له سبحانه على نعمة الإيمان والدين، وأشهد ألا إله الله وحده لا شريك له، القائل في كتابه المبين: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ وأشهد أن سيدنا محمدًا رسول الله خاتم الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فيا عباد الله، اتقوا ربكم التقوى الحق، والزموا طاعته، وتجنبوا الفسق، واستقيموا على هديه حيث خاطبكم بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾.
عباد الله: لا يعاني المسلمون في هذه الأيام من أزمة جهل بالإسلام، قدر ما يعانون من أزمة التطبيق الواقعي لما يعرفونه من الإسلام، فعلماء الإسلام كثر ولله الحمد، والكتب التي تتحدث عنه غزيرة، والدعاة إليه كثيرون، ومراكز تعليمه متعددة ومنتشرة في كثير من أصقاع الأرض، والصحافة والإذاعات وسائر وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية تتكلم عنه بصورة مقتضبة أو مفصلة، ولو أحصينا رصيد كل مسلم مما يحفظ آية أو سورة قصيرة من القرآن، ومن الحديث حديثًا أو حديثين، ومن الأحكام الشرعية حكمًا أو حكمين، وهذا القليل الذي يحفظه، لو طبقه بحذافيره لكان كفيلًا بفلاحه ونجاحه، وخَلّصه من كثير من أزمات عيشه واضطراب حياته، ولكنه حيث لم يطبق هذا القليل؛ بقى غارقًا في ظلمات العيش، متخبطًا في لجة الصراع الدائر في الحياة، لا يهتدي إلى سبيل الخلاص، ولقد جاء في الحديث «لو تركتم عُشر ما أمرتم، لهلكتم، ويأتي على الناس زمان لو فعلوا عُشر ما أمروا به لنجوا».
فيا معاشر المؤمنين: اعلموا أن الله تعالى إنما أنزل دين الإسلام ليطبق في واقع الحياة، وليكون منهجًا ضابطًا لتصورات الناس وسلوكهم وعواطفهم ومعتقداتهم، فمن عطَّل شرع الله عن التطبيق، وعزله عن دائرة التنفيذ العملي، واكتفى بحفظه والتفكه بقراءته وإثارة الجدل حوله، فإن ما اطلع عليه من الإسلام وعرفه من أحكامه، يصبح حجة عليه يوم القيامة، وهذا ما حذرت منه سيدتنا عائشة رضي الله تعالى عنها عندما أتاها عطاء بن أبي رباح يسألها عن العلم، فقالت له: يا بني، هل عملت بما سمعت؟، فقال: لا والله يا أُمَّه، قالت: يا بني، فيم تستكثر من حجج الله علينا وعليك.
وجاء في الحديث قوله عليه الصلاة والسلام: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه».
وكان الصحابة رضي الله عنهم على غاية الحذر من أن يعلم أحدهم شيئًا من دينه ولا يطبقه، فلقد قال ابن مسعود رضي الله عنه: (والله ما منكم من أحد إلا وإن ربه سيخلو به، كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر، ثم يقول: يا ابن آدم ما غرك بي؟ ثلاثًا، ماذا أجبت المرسلين؟ كيف عملت فيما علمت؟ فلا تبقى آية من كتاب الله عز وجل آمرة أو زاجرة إلا جاءتني تسألني فريضتها، فتسألني الآمرة: هل ائتمرت؟ والزاجرة: هل ازدجرت، فأعوذ بالله من علم لا ينفع، ومن نفس لا تشبع ومن دعاء لا يُسمع).
أيها الإخوة المؤمنون: حذر الله تعالى من مغبة نبذ العمل وتعطيل منهجه عن التنفيذ، فذم أولئك الذين لم يكن حظهم من دينهم إلا قراءته ودراسته، فقال في حق علماء بني إسرائيل: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾.
وأقول أيها الإخوة توثيقًا لهذه الحقيقة:
لقد أعلن العلماء أن مفهوم الاستقامة التي أمر الله بها عباده بقوله: ﴿أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ﴾، وبقوله: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا ۚ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾، والتي أثنى بها على عباده الصالحين بقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾، وكذا التي أمر الله بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله لأحد أصحابه: «قل آمنت بالله ثم استقم».
هذه الاستقامة إنما تعني التطبيق العملي والتنفيذ الصحيح لشريعة الله وأحكام دينه القويم، وهذا تفسير مفهوم الاتباع الذي ذكره الله بقوله: ﴿وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.
فيا معشر المسلمين: ترجموا معنى انتسابكم إلى الإسلام بحسن تطبيق أحكامه وتنفيذ توجيهاته وآدابه، واحذروا من أن تحملوه بألسنتكم وتنبذوه بأعمالكم، فإن من يقرأ قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾، ثم يدع نفسه وأهله بلا تأديب، ويرتكس معهم في حمأة الملذات والشهوات والمعاصي والمنكرات، يكون نابذًا من خلال واقعه معنى هذا الأمر الإلهي، والذي يقرأ قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا﴾، ثم يقارن أكل الربا، لا يفترق بواقعه عن الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها، والذي يقرأ قول الله عز وجل: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾، ثم يخون الأمانة ويظلم الناس ويجور في حكمه هو أبعد ما يكون عن الإسلام ولو قال إنني من المسلمين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بالآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى، وبعد:
معاشر المسلمين: تجنبوا أن تتغربوا عن دينكم الذي ارتضاه لكم، واعلموا أن أعداء الإسلام الملاحدة، حيث أيقنوا أنه لا سلطان لهم على دين الله الحق، لأن الله تعالى تكفل بحفظه، ووجدوا أن جميع ما يثيرونه حول الإسلام من شبهات قد تكسرت هياكلها، وتحطم زيغها أمام أصالة هذا الدين وجوهره المتين، فلم يقولوا: إن الإسلام خرافة، لأنهم علموا أنه دين حارب الخرافة، وخاطب العقل البشري المجرد، ودعا إلى العلم والمعرفة، ولم يقولوا إن الإسلام أباطيل ومجموعة أساطير؛ لأنهم علموا أنه الحق، ولم يقولوا: إن الإسلام زيغ وتضليل؛ لأنهم علموا أنه منهج الهدى المبين، فلم يجدوا أمامهم سبيلًا إلى ضرب الإسلام في صميمه إلا أن يبعدوا أتباعه عنه، دون أن يقولوا لهم اتركوا الإسلام، وذلك عندما صوروا لنا الإسلام أنه مجرد قيم مثالية ومبادئ عليا، تبقى ماثلة في أذهان المسلمين وقلوبهم ولا مجال لتطبيقها في واقع سلوكهم، فأبعدوهم عن دائرة الإسلام في واقعه العملي بما أغدقوا عليهم من عادات وتقاليد، ومفاهيم اجتماعية وسلوكية، تفقد المسلم أصالته الإسلامية، ليصبح الدين في نظره مجرد فكرة عارية عن صلاحية التطبيق في واقع الحياة، فزينوا لأبناء المسلمين الزنا وقالوا إنه ذوق عصري متطور لطبيعة العلاقة بين الشاب والفتاة، وزينوا للمرأة السفور والتعري، وقالوا إنه حرية، زينوا للرجال والنساء الاختلاط السافر، وقالوا إنه حضارة ومدنية، وزينوا للتاجر الغش والخيانة، وقالوا إنه ذكاء وفطنة، وزينوا للناس مختلف صور الفساد الاجتماعي والضلال الفكري، وقالوا إنه تقدم وازدهار وحضارية.
فاحذروا أيها المسلمون من أن تتخلوا عن عادات إسلامكم وتقاليده، واعلموا أنكم إن تمسكتم بدينكم ولزمتم تطبيقه قولًا وعملًا واتخذتموه منهجًا لحياتكم؛ فلن تضلوا ولن تخسروا ولن تذلوا ولن تُهزموا؛ بل سوف تجدون في ظله العزة والكرامة والنصر والسلامة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما كتاب الله وسنتي».
اللهم ألهمنا رشدنا وثبتنا على ديننا واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه اللهم صل وسلم على الهادي البشير النذير وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.