بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى
الحمد لله العلي الخلاق، والشكر له سبحانه مقسم الأرزاق، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا رسول الله، اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا وقرة أعيننا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فيا عباد الله عليكم بتقوى الله في جميع الأحوال وأكثروا من ذكره في الغدو والآصال، فلقد بشر سبحانه عباده المتقين حيث قال: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾.
أيها الإخوة المؤمنون: في زحمة الصراع الدائر بين الخلق على موارد الرزق، وفي زحمة نتائج هذا الصراع الطاحن من أزمات نفسية وأمراض عصبية واستسلام رخيص لليأس والقنوط والهموم والشقاء والتمزق والضياع أجد من الضرورة بمكان أن أتحدث في خطبتي اليوم عن قضية تتضمن الدواء الناجع والعلاج النافع لتلك النتائج الخاسرة التي أسفر عنها ذلك الصراع المقيت.
وهذه القضية تُعد من قضايا الإيمان العامة وركائز الحياة الإنسانية الآمنة التي تقوم على أساس الإيمان المطلق بالله رب العالمين هل تدرون ما هذه القضية التي سوف تكون محور حديثنا؟ إنها قضية الإيمان بالرزق المقسوم.
معاشر الأحباب: اعلموا أن الرزق المقسوم آية من آيات الله سبحانه وسر من أسراره قام دليلًا ساطعًا على تفرده سبحانه بالألوهية والربوبية، وفي مضمار الحديث عن هذه الآية الكريمة التي تملأ حياتنا وتغمر محيط المخلوقات، أقول:
لقد بين الله تعالى لنا في محكم تنزيله أنه جعل لنا الأرض مهدًا تستقر فيه حياتنا ويستمر على أديمه وجودنا فقال جل ذكره: ﴿وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ﴾، وقال: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا﴾، ومن مقتضى كون الأرض مهدًا لحياة الإنسان وسائر المخلوقات أنه أودع فيها ما يستدعي استمرار هذه الحياة من ألوان الرزق ووسائل العيش وأشار سبحانه إلى أن ما أودعه من الأرزاق وطرائق المعاش كافٍ للخلق أجمعين فقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ ۗ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ﴾، وقال: ﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾.
معاشر المؤمنين: حيث خلق المولى سبحانه الخلق وأوجدهم في هذه الحياة وساق لهم أرزاقهم أعلن أنه ليس لأحدٍ سلطان على هذا الرزق إلا الله، ولخص هذه القضية الإيمانية بقوله: ﴿وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا﴾، فالرزق بيد الله وحده القائل في صريح قرآنه: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ﴾.
بل أقول أيها الأخوة المؤمنون: لقد حدثنا الله سبحانه في كتابه العزيز عن الرزق في مائةٍ وثلاثةٍ وعشرين موضعًا ما فيها موضع واحد صرح فيه بأن الرزق بيد غيره أو أن لأحد من خلقه سلطان عليه، بل أعلمنا أن الرازق يقتضي أن يكون خالقًا حتى تصح نسبة الرزق إليه، وأما المخلوق فلا يصح في العقل تصوره أن يكون رازقًا لاتصافه بالمخلوقية، فمن فقد القدرة على الخلق فقد القدرة على الرزق.
ولقد أكد الله تعالى هذه الحقيقة في معرض تحديه للمعاندين فقال: ﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾.
انظر أخي المؤمن قال ربك سبحانه: ﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ﴾ ولم يقل: هل من أحد أو هل من مخلوق كأنه سبحانه وتعالى يقول لنا: اعلموا أن الرازق لا يكون إلا خالقًا.
وحيث قام الدليل على أنه لا خالق إلا الله فتصبح القضية في وجهها الصحيح لا رازق إلا الله. وقال سبحانه متحديًا من يعبد غيره من الآلهة المزعومة التي لا تقوى على شيء أن لو أمسك الله الرزق عن عباده، هل تستطيع هذه الأوثان والآلهة المكذوبة أن ترزقهم من دونه؟ ﴿أَمَّنْ هَٰذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ ۚ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ﴾، كلا لن تفلح تلك الآلهة الباطلة في رزقهم؛ لأنها مخلوقة تحتاج لمن يسعى عليها، والإله الحق هو الذي يُطعِم ولا يُطعَم، هو الذي يحتاجه كل شيء ولا يحتاج إلى شيء، هو الذي قال عن نفسه: ﴿مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ. إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾، وهو الذي خاطب عباده بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾.
أيها الإخوة المؤمنون: إذا تكفل الله تعالى بأرزاق الخلق ولم يكل أمر ذلك إلى أحد سواه، اقتضى ذلك ألا يجزع الإنسان على لقمة عيشه، وألا يقلق على رزقه ولو ضُيِّقت عليه منافذ الكسب وحيل بينه وبين رزقه، عليه أن يؤمن أن ما قسم الله من الرزق لابد بالغه، ولو وقفت الدنيا كلها في وجهه، ولقد أكد الرسول صلى الله عليه وسلم الحقيقة عندما قال: «إن روح القدس نفث في روعي أن نفسًا لن تموت حتى تستكمل رزقها ألا فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعاصي الله لأنه لا يدرك ما عند الله إلا بطاعته» رواه ابن أبي الدنيا في كتابه القناعة والحاكم وصححه من طريق ورواه ابن ماجه والطبراني.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ ۚ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَىٰ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ ۚ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بالآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
عباد الله: اعلموا أن الله كتب رزق المخلوق في الحياة قبل أن يولد، فلقد قال عليه الصلاة والسلام في حديثه عن خلق الإنسان وتكوينه في رحم أمه «ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد»، فلماذا يفزع الإنسان على لقمة عيشه ويسير من أجلها في الباطل والحرام، وهو يعلم أنه لن ينال أكثر مما كتب الله له من الرزق؟ لماذا يقتل أولاده خوفًا من الرزق، فيجبر الرجل امرأته على تعاطي حبوب منع الحمل أو على الإجهاض خشية إنجاب الأولاد، بحجة عجزه عن إطعامهم ورعاية شؤونهم؟ أقول لهذا الإنسان يكفيه أن يقرأ قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ﴾، وحسبه أن يقرأ في قصة مريم قول رب العزة تعالى: ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ۖ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾، فالله وحده سبحانه المتكفل الحقيقي بأرزاق خلقه وأما كفالة العباد على بعضهم فهي كفالة صورية ظاهرية، فليطمئن الإنسان على رزقه فهو بيد من خلقه، ولن يضيع مخلوق في ظل رعاية خالقه سبحانه الذي قال: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾.
فيا أيها المؤمنون التمسوا أرزاقكم في مسالك الحلال، واجتنبوا الحرام، واطمئنوا فلن تبلغوا أكثر مما كُتب لكم من الرزق ولن يفوتكم منه ذرة.
اللهم ألهمنا رشدنا وارزقنا طيبًا واستعملنا صالحين، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد صلى الله عليه صلاة دائمة وارض اللهم على الصحابة الأجلاء الغر الميامين أخص منهم الخلفاء الأربعة الراشدين المهديين والستة المبشرين وأمهات المؤمنين وباقي الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بعفوك وفضلك يا أرحم الراحمين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين واحم حوزة الدين ودمر أعداء الدين، اللهم انصر عبادك الموحدين والمظلومين والمجاهدين في كل بلاد المسلمين. اللهم قنا الربا والزنا والزلازل والمحن وسائر الموبقات والمحن عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين يا أرحم الراحمين. اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والأحياء منهم والأموات.. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون. فاذكروا الله يذكركم واشكروه على آلائه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون. أقم الصلاة.