بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى
الحمد لله الهادي إلى سواء الصراط، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، وتذكروا أنتم اليوم أقدر على العمل من الحساب غدًا يوم لا عمل ولكن حساب وجنة ونار.
عباد الله: إن دين الإسلام من أكمل الأديان السماوية شمولية وتشريعًا وإحاطة، فهو صالح لكل زمان ومكان وشأن، مهما تبدلت أحوال الناس وأشخاصهم وألسنتهم وطبائعهم، قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾، فلا كمال بعد إكمال الله، ولا تمام بعد إتمام الله، ولا مرضاة بعد مرضاة الله.
وإن الناظر بعين الإنصاف في مجتمعات المسلمين وشرائحهم ليرى عجبًا ويسمع عجبًا، بل قد يعجز عن التعبير لما يرى من المتناقضات، فبالأمس كان المسلمون لهم قصب السبق في جميع شؤون الحياة ومصالحها، بدءًا من صلاح القلوب وإصلاحها وتهذيب النفوس بمكارم الأخلاق وحسنها إلى مصالح الناس الدنيوية.
فهذه الخلافة في المدينة كانت محط أنظار الأمم الأخرى هيبة وشموخًا بعزة الإسلام وأهله، ودار الخلافة في دمشق كانت موئلًا لمختلف العلوم والمعارف، وبلغ هذا الأمر ذروته في عاصمة الخلافة العباسية بغداد، وقل مثل هذا أو زاد عليه في عصور الأندلس الذهبية بالتقدم العلمي والحضاري، وأصبحت قرطبة محطًا لركائب الراغبين في تحصيل العلوم النظرية والتطبيقية.
وكانت المجتمعات الأخرى تغط في سبات عميق من الجهل والظلام، وقد لبست ثياب الفوضى والاضطراب الفكري والحضاري والأخلاقي، وقد دون التاريخ وشهدت صفحاته العظمة والتقدم العلمي للمسلمين، وإمساكهم بزمام الأمور في تلك العصور، وكيف كان أهل الملل الأخرى يقفون موقف المتفرج والسائل الذليل، وقد شهد بذلك كثير من غير المسلمين كقول أحدهم (كل الشواهد تؤكد أن العلم الغربي مدين بوجوده إلى الثقافة العربية الإسلامية) إلى غير ذلك من الشواهد، لكن الذي يندى له الجبين وتدمع له العين وينفطر له القلب ما أعقب ذلك من تغير الأحوال والأوضاع، وكيف أصبح كثير من المسلمين يُقادون بعد أن كانوا يقودون، ويَتبعون بعد أن كانوا يُتبعون، وبكل حال ودون تردد أو شك يكمن الجواب في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾، ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ﴾ ونصر الله للمسلمين عام في شتى المجالات العلمية والعملية والاجتماعية، فمتى اعتصم المسلمون بدينهم اعتصامًا صادقًا رجعت لهم عزتهم ومكانتهم وهيبتهم، وما أجمل مقالة الفاروق رضي الله عنه (نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله).
والناظر في أحوال كثير من مجتمعات المسلمين يرى فيها كثيرًا من مكامن النقص والخلل الذي أوصل كثيرًا منهم إلى الشعور بالضعف والخَور، وسنذكر في هذا المقام خمسة أسباب من أسباب ضعف المسلمين، وهناك غيرها لكن علّها أن تكون شاملة لها.
السبب الأول: وهو أهم الأسباب وأعظمها وهو الإعراض عن حكم الله، والجهل بأحكام الدين وتعاليمه، وبخاصة فيما يتعلق بأمور المعتقد، فكثير من مجتمعات المسلمين قد ترسبت فيها كثير من البدع العقدية فضلًا عن البدع في الفروع، قال الإمام الشاطبي رحمه الله: (البدعة إذا دخلت في الأصل سهلت مداخلتها في الفروع).
فكم يُرى ويُسمع ويُقرأ عما يحصل في كثير من بلاد المسلمين من الذبح لغير الله، والطواف حول الأضرحة وتعظيم القبور، والاستغاثة والتوسل بغير الله، فيما لا يقدر عليه إلا الله، ناهيك عن النذر لغير الله والحلف بغيره، وكان من نتيجة ذلك أن أصبح التوحيد الخالص غريبًا في بعض مجتمعات المسلمين، بسبب تكاثر تلك البدع وترسب جذورها في تلك المجتمعات.
ونحمد الله أن جعل بلادنا خير بلاد المسلمين، عقيدة ومنهاجًا في إظهار السنن وإخفاء البدع. وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى – أن فعل القليل من البدع يؤدي إلى فعل الكثير، ثم يشتهر أمره، ثم قال رحمه الله: (ثم إذا اشتهر الشيء دخل فيه عوام الناس وتناسوا أصله حتى يصير عادة للناس، بل عيدًا حتى يضاهي بعيد الله، بل قد يزيد عليه حتى يكاد أن يفضي إلى موت الإسلام وحياة الكفر).
شاهد المقال: أن غالب الشيء في تلك المجتمعات يرتضع لبان البدع والجهل، ويشب ويشيب ويموت عليها، إلا من رحم الله تعالى، بل إن بعض من نشأ في محيط تلك البدع، مع كونه من المكثرين لسواد أهلها، زاد بذلك في كونه أيضًا منافحًا عنها وشوكةً وغصةً في حلوق المحذرين من البدع وشرورها، فجمع بذلك بين سوأتين: عمل البدع والدفاع عنها.
والخلاصة إن الإعراض عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإظهار البدع سببٌ في ضعف الأمم وانهيارها.
السبب الثاني: الإعجاب والتبعية المطلقة لأعداء الإسلام دون وضع المعايير الإسلامية في طريق تلك التبعية، بل بلغ الإعجاب والافتتان أَوُجّه بتلك الحضارة جملة وتفصيلًا عند فئات من المسلمين، حتى أصبحوا من الداعين إلى الاحتذاء بحذوها، والسير في ركابها حذو القذة بالقذة وحذو النعل بالنعل، شبرًا بشبر وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلوه، وهذا مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لتتبعن سنن من قبلكم، شبرًا بشبر وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا حجر ضب لتبعتموهم، قيل: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟».
شاهد المقال: أن بعض ضعفاء النفوس من المسلمين ممن بهرتهم حضارة الغرب وتخللت شغاف قلوبهم، زعموا أن أمة الإسلام لن يكون لها فلاح ولا رقي إلا بمحاكاة تلك الحضارة، دون البحث عن غثها من سمينها، وكان ممن تولى كِبَر هذه الدعوة شراذم من الكتاب الخونة لدينهم وأمتهم، وبعضهم يلبس ثوب الإصلاح بزعمهم، فصدق عليه قول القائل:
يحللون بزعم منهم عُقدا وبالذي وضعه زادت العقدُ
وكان من نتيجة ذلك: أن خرج جيل متنكر لدينه وأهل ملته، بل زاد بلاؤه بتوليه المدافعة عن تلك الحضارة والترويج لها؛ فوظف نفسه وطاقاته لأعداء الإسلام، شعر بذلك أو لم يشعر.
اللهم أصلح أحوال المسلمين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، واهب العباد نعمة العقل والرشاد، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
معاشر المسلمين:
السبب الثالث: العصبية الجاهلية لجنس أو لون أو لسان، والانضمام تحت لواء تلك العصبية والدعوة إليها وتمجيدها والمنافحة عنها، بغض النظر عن الفوارق في ميزان الشرع، فأصبح حالهم يحاكي قول القائل:
وما أنا إلا من غُزّية إن غَوت غَويت وإن تَرشد غُزّية أرشُد
فجعلوا رابطة الجنس واللون واللسان هي الأصل وما سواها عرض زائل، فتحلل عندهم ميزان الولاء والبراء وغابت معالمه، بل أعادوا طبائع الجاهلية ورسخوها فزادوا الأمة فرقة وتناحرًا، وأوقدوا بذلك نار العداوة والبغضاء، فلا هم للإسلام نصروا ولا لأعدائه كسروا، بل أعانوا أعداءه على تمزيق شمله وتفريق كلمته.
السبب الرابع: اليأس والقنوط اللذان تمكنا في قلوب طوائف من المسلمين، ويبدو ذلك واضحًا في لسان حالهم ومقالهم، فأهلكوا أنفسهم وأهلكوا غيرهم بتثبيطهم وتخذيلهم حتى أصبح ديدن حديثهم: لن نكون، ومتى نكون؟ فكانوا مطايا تسير بأصحابها في دروب الذل والانهزامية، فقتلوا الهمم ووأدوا العزائم من حيث يشعرون أو لا يشعرون.
ولو أنهم رجعوا إلى ماضي أمتهم التليد، وقلبوا صفحات تاريخها المجيد، لو أنهم تأملوا ذلك بقلب شهيد لتغيرت مفاهيم كثيرة، لكنهم أو كثير منهم لبسوا ثياب القنوط واليأس وحفروا قبورهم بأنفسهم.
السبب الخامس: حب الدنيا، وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، وأنها ستفتح على المسلمين ويتنافسوا فيها، روى الشيخان عن عمرو بن عوف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تُبسط الدنيا عليكم كما بُسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم»، ومن هنا نجد الحديث التالي محذرًا من الدنيا، روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل»، وكان ابن عمر يقول: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء).
السبب السادس: تعطيل شعيرة الأمم بالمعروف والنهي عن المنكر حسًا ومعنى، حتى أصبح المنكر معروفًا والمعروف منكرًا لدى الكثير من المسلمين، بل وصل الأمر عند بعضهم إلى أن يتواصوا بالمنكر، وهذا من أسباب حلول اللعنة والعقاب ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ. كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾. فأذل الله أمة بسبب تضييعها لهذه الشعيرة.
وفي المقابل رفع الله شأن أمة بسبب حفظها لهذه الشعيرة فقال عز وجل: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾.
شاهد المقال: إن تضييع شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سببٌ عظيم من أسباب ضياع الدين والدنيا والبرزخ والآخرة.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم احفظ بلدنا هذا خاصة وسائر بلاد المسلمين عامة من شر الأشرار وكيد الفجار، اللهم احفظ بلادنا من شر البدع والفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم وفق ولاة أمرنا إلى خيري الدنيا والآخرة، واجعلهم مفاتيح للخير مغاليق للشر، اللهم وفق ولاة أمور المسلمين إلى ما فيه صلاح شعوبهم ورعاياهم، اللهم انصر عبادك الموحدين، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون. فاذكروا الله يذكركم واشكروه على آلائه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.