بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى
الحمد لله وحده، أكرمنا بهذا الدين القويم، إن الدين عند الله الإسلام ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
اتقوا الله عباد الله، فالتزموا من الإسلام بعراه، وتجنبوا الوقوع في المزالق والبدع والخرافات، وتذكروا يوم تعرضون إلى خالقكم.
أيها الإخوة: إن القارئ المتفحص لكتاب الله يدرك كم سما الإسلام بالإنسان المسلم، وأعلى من شأنه، فأكرمه وفضله على كثير ممن خلق تفضلًا ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾، ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾.
والمسلم صاحب الخلق الحسن، مطالب بالأدب مع خالقه، والأدب مع رسوله صلى الله عليه وسلم، ومع أخيه الإنسان.
وقد وردت آيات كثيرة في هذا الشأن: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا﴾، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ﴾ فالله سبحانه وتعالى أدبنا، وعلمنا الأدب معه، ومع كتابه، ومع رسوله صلى الله عليه وسلم، فحري بالإنسان المسلم أن يلتزم أسلوب الأدب في ذلك، ومن أدب الله مع عباده أن التكاليف الشرعية المفروضة عليهم استهلت بأسلوب النداء المحبب إلى المؤمنين، المذكِّر لهم بصفته الرئيسة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾، ثم تقرر لهم بعد ندائهم ذلك النداء أن الصوم فريضة قديمة على المؤمنين بالله في كل دين، وأن الغاية الأولى هي إعداد قلوبهم للتقوى والشفافية والحساسية والخشية من الله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ وهنا تبرز الغاية الكبيرة من الصوم إنها التقوى، فالتقوى هي الغاية من الصوم، وهي الحافظة له بلوغًا لتمامه، وطاعة لله، وإيثارًا لرضاه، والتقوى هي التي تحرس هذه القلوب من إفساد الصوم بالمعصية، ولو تلك التي تهجس في البال، والمخاطبون بهذا القرآن يعلمون مقام التقوى عند الله، ووزنها في ميزانه، فهي غاية تتطلع إليها أرواحهم، وهذا الصوم أداة من أدواتها وطريق موصل إليها.
إن التربية الإسلامية تربية خلقية سلوكية، حيث إنها لا تكتفي بالقول فقط، بل تتعداه إلى العمل والممارسة، وإذا نظرنا إلى المبادئ الرئيسة التي بُني عليها الإسلام وجدنا أنها تتطلب سلوكًا خلقيًا عمليًا.
فالشهادة بوحدانية الله ونبوة رسوله صلى الله عليه وسلم وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج والصوم كلها تتطلب سلوكًا وتطبيقًا خلقيًا عمليًا، ومن تمام كمال الإنسان المسلم أن تتطابق أقواله مع أفعاله، كما اهتمت التربية الإسلامية بتكوين العادات السلوكية الحسنة عند الفرد لما في هذه العادات من أثر طيب في اكتساب الفضائل والأخلاق والبعد عن الشرور والرذائل.
ولقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أثر السلوك بالأخلاق، عندما سمع نبأ امرأة كانت تكثر الصلاة والصيام والعبادة، ولكنها مع ذلك كانت سليطة اللسان سيئة العشرة تؤذي جاراتها بلسانها، فقال: «أخبروها أنها من أهل النار»، وسمع نبأ امرأة أخرى كانت تكثر من الصلاة وتتصدق بالقليل، ولكنها كانت حسنة الخلق لا تؤذي جاراتها فقال: «أخبروها أنها من أهل الجنة».
فالمسألة في نظر المربي صلى الله عليه وسلم ليست بالكم ولكنها بالكيف، ليست بالكثرة والوفرة بل بالغاية والثمرة.
فرب عبادة كثيرة لكنها لا تترك في نفس صاحبها من الأثر قليلًا أو كثيرًا، وربما قلت ولكنها متقنة خاشعة مخلصة، فتترك أعظم الأثر في سلوك صاحبها.
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه».
فقد يصوم المسلم عن الطعام والشراب ويفطر على لحوم الناس، فيغتاب هذا ويسخر من هذا، فهل يُقبل منه صومه، وإنما يتقبل الله من المتقين. فالتقوى من أجلها فرض الصيام، والآيات الخمس الواردة في سورة البقرة عن الصيام، ختمت الآية الأولى والأخيرة بالتقوى، فلنحرص عباد الله على أن يتحقق عندنا وفي أنفسنا ما أراده ربنا من صومنا، وأن نجعل الصوم وسيلة لتقوية إيماننا بالله وتقوى الله خير للمؤمنين، فقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يحرصون على تقوى الله في كل شيء، فقد قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: (التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور الله، تخاف من عقاب الله).
معاشر المسلمين: جرت عادة المؤسسات العلمية والعملية منح إجازة سنوية لمنسوبيها بهدف تجديد العزم على العلم والعمل والإتيان بالجديد من الإنتاج المطرد.
وإذا كان المخلوق يدرك أهمية هذه الإجازة، فالخالق أعلم بذلك وهو العليم الحكيم، ففرض الصوم شهرًا واحدًا من كل عام؛ ليأخذ الجسم قسطًا من الراحة والاستجمام، ثم يعاود مزاولة عمله وإنتاجه طيلة عام جديد بحيوية ونشاط.
كما جرت عادة رؤساء تلك المؤسسات عمل حساب سنوي لإنتاجها من حيث الكم والكيف، فحيثما عثروا على ثغرة في سير العمل تداركوها، والخالق العليم سبحانه وتعالى فرض على عباده الصوم ليقوّم سلوك عباده، ويهديهم سواء السبيل، لأن النفس عندما تسترسل في المباحات، فإنها تبطر نعمة الله، وتتقاعس عما خلقت من أجله، لذا أدخلها في مجاهدة للنفس خلال شهر رمضان لتعود إلى المنهج المرسوم لها.
إن حرمانها من الطعام والشراب والشهوات طيلة نهار كامل، وإلزامها بنظام دقيق في بدء الصيام ونهايته، يدربها على فهم الحياة بشكل أوسع وأعمق، وذلك لما تحقق فيه من سكينة وشفافية خلال الدورة التدريبية، هذا ولتنطلق منها طوال عامها القادم، وجزاء الصيام لا يعلمه إلا الله، فهو الذي اختص به سبحانه، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به».
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمد الشاكرين، أما بعد:
قال الله تعالى: ﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا . ذَٰلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ عَلِيمًا﴾، ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ﴾، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الصوم نصف الصبر، والصبر جزاؤه الجنة».
ولنتساءل ما هو الصوم المقبول عند الله تعالى؟ إنه صوم الصالحين، وقد قيل في الخبر: خمس يفطرن الصائم: الكذب والغيبة والنميمة واليمين الكاذبة والنظر بشهوة.
وتمام هذا الصوم بستة أمور هي:
أولًا: غض البصر وكفه عن الاتساع في النظرة إلى ما يذم ويكره، وإلى كل ما يشغل القلب ويلهي عن ذكر الله عز وجل.
ثانيًا: حفظ اللسان عن الهذيان، والكذب والغيبة والنميمة والفحش والجفاء والخصومة والمراء، وإلزامه السكوت، وشغله بذكر الله عز وجل وتلاوة القرآن الكريم، وقال سفيان الثوري: الغيبة تفسد الصوم.
ثالثًا: كف السمع عن الإصغاء إلى كل مكروه، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (المغتاب والمستمع شريكان في الإثم).
رابعًا: كف الجوارح عن جميع الآثام من اليد والرجل، وكف البطن من الشبهات وقت الإفطار، فلا معنى للصوم، وهو الكف عن الطعام الحلال ثم الإفطار على الحرام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش» أي الذي يفطر على الحرام، أو الذي يفطر على لحوم الناس، أو الذي لا يحفظ جوارحه عن الآثام.
واقعة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم:
طلب النبي صلى الله عليه وسلم من الناس أن يصوموا في يوم غير رمضان، ثم قال: «لا تفطروا عند الغروب قبل أن تستأمروني»، ثم جاء الناس وقت الإفطار يستأمرونه وهو يسمح لهم إلا امرأتين، قال لهما: «لا تفطرا»، فأجهدهما الجوع والعطش حتى كادتا أن تتلفا، فبعثتا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذناه في الإفطار، فأرسل إليهما قدحًا وقال صلى الله عليه وسلم: «قل لهما قيئا فيه ما أكلتما»، فقاءت إحداهما نصفه دمًا عبيطًا ولحمًا غريضًا، وقاءت الآخرة مثل ذلك حتى ملأتاه، فعجب الناس من ذلك فقال صلى الله عليه وسلم: «هاتان المرأتان صامتا عما أحل الله لهما، وأفطرتا على ما حرم الله عليهما، قصدت إحداهما إلى الأخرى فجعلتنا يغتابان الناس فهذا ما أكلتما».
خامسًا: أن لا يستكثر من الطعام الحلال وقت الإفطار.
سادسًا: أن يكون قلبه عند الإفطار معلقًا بين الخوف والرجاء، إذ لا يدري الصائم أيقبل صومه فهو من المقربين أو يرد عليه فهو من الممقوتين.
اللهم اجعلنا من الصائمين المقبولين يا رب العالمين.
أيها الإخوة: تعلمون كما أسلفنا أننا في شهر الخيرات، الصدقة تتضاعف، الحسنة بعشرة أمثالها: ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا﴾.
اللهم اشف مرضانا ومرضى المسلمين، اللهم اغفر لنا وارحمنا ووالدينا ولمن له حق علينا، وللمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر، اللهم إنا نسألك منازل السعداء وكرامة الشهداء والنصر على الأعداء، اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداءك أعداء الدين.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وأقيموا الصلاة.