بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي أنعم علينا بإتمام شهر الصيام وأعقبه بأشهر الحج، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد:
يواجه المسلمون في كل مكان رياحًا عاتية، وعواصف تريد اقتلاعهم من فوق كل أرض يضعون عليها أقدامهم، ويجتمع الكفر والإلحاد والصهيونية والشيوعية لقهرهم وإذلالهم. ولكن الإسلام دائمًا يقف صامدًا في مواجهة خصومه من أعداء المسلمين، ولا يشترط على المسلمين شيئًا إلا أن يؤمنوا بالله إيمانًا كاملًا، وينصروا الله بتنفيذ شريعته وتحكيم دينه في كل أمورهم: ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾.
وعلى المستوى العالمي سجل الميزان الدولي اختلالًا في الاقتصاد العالمي وإنذارًا لكافة الشعوب أنها تقف على خانة الجوع والهلاك وأن العالم يعاني من نقص في الطعام والشراب.
كما سجلت الأحداث العالمية خوفًا وفزعًا ينتشر في ربوع العالم بفعل منظمات خدعت الشباب بالمال والفساد وشاع قتل النفس والتي حرم الله قتلها إلا بالحق.
ولم تكن كل هذه الظواهر إلا دليلًا جديدًا يؤكد ضرورة عودة المسلمين إلى الإسلام وتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في كل مكان.
ولم تكن هذه الظواهر مفاجئة للمسلم فإنهم يؤمنون أنها ابتلاء من الله وفي أيديهم أن يدعو لرفع هذا البلاء.
لقد نزل القرآن الكريم منذ خمسة عشر قرنًا حيث كان عمر الرسول صلى الله عليه وسلم أربعين عامًا، وقبل الهجرة بسنتين وعشر سنوات يعلن هذا للمسلمين حيث يقول رب العالمين: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾.
ومع اختلاف علماء الاقتصاد والاجتماع في الأسباب التي انتهت بالعالم إلى هذا المصير فإنهم لن يختلفوا معنا كمسلمين بل سيجمعون على رأينا في التحليل الإسلامي لهذه الظاهرة.
1-إن نقص الأموال الذي أشار إليه القرآن الكريم موجود فعلًا، ولا تعبر عنه كثرة الأرقام المتداولة في أيدي الناس ولكن عبر عنه فعلًا ذهاب البركة في القيمة الشرائية التي يسميها علماء الاقتصاد القوة الشرائية، وأن معظم هذه الأموال الضخمة ليس لها غطاء إنتاجي أو غطاء ذهبي يغطيها بينما كان أجدادنا يشترون بالدراهم القليلة ما تشتريه اليوم بدنانير كثيرة.
2-كما أن نقص الأنفس لا يعبر عنه قلة إنجاب البنين والبنات، وإنما يعبر عنه التدهور المستمر في البنية الصحية، والمواهب العقلية التي خرجت فحول العباقرة والعلماء من الرجال، وضعف همة الشباب عن التحمل والصبر والجلد كما كان أجداهم الأولون.
3-وأما نقص أمان الإنسان وسلامته فهو الذي عبّر عنه القرآن بالخوف والاضطراب النفسي الذي يعيش فيه الناس، ولا تعبر عن الأمن مظاهر الترف مع استئجار الحراس، وإنما يعبر عنه قول الله تعالى: ﴿أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾.
4-ووجود النقص في الثمرات لا يعبر عنه قلة المساحات المنزرعة من الأرض أو قلة المعروض من السلع، وإنما تعبر عنه التقارير الدولية التي تهدد العالم بالمجاعة البشرية في مستقبل الأيام.
وهنا يتحرك سؤال هام:
إذا صح هذا التحليل وهو صحيح في المخرج مما نحن فيه وما العلاج؟
وهنا نجد القرآن الكريم واضحًا ليجيب بقوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾.
وبهذا وبكل ما جاء في كتاب الله العزيز الحكيم شرع لنا من الدين ما يغنينا عن استيراد المذاهب الإلحادية والمادية شرقية كانت أو غربية ولن تكون الشريعة الإسلامية حكرًا لنا لإسعادنا، بل إنها تفتح ذراعيها لكل العالم بمبادئها السامية.
عباد الله: إن الشريعة الإسلامية قد مرت عند تطبيقها في صدر الإسلام بمواقف اجتازتها وأثبتت فيها صلاحيتها حتى فتحت لها أوروبا أبوابها واستقرت عشرات ومئات السنين كما نشطت في آسيا وأفريقيا.
وكان سر صلاحيتها لكل الناس من أنها في حكم الشعوب تراعي هذه الأصول الإسلامية للحكم في تطبيق الشريعة الإسلامية وهي:
أولًا: أنها جعلت أساس الحكم لله فقال تعالى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ﴾، وأثابت الحاكم في أن يحكم بما أنزل الله: ﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ﴾، وقيدت حكم الحاكم بأن لا يتعدى حدود الله.
ثانيًا: لم تجعل للشعوب حق العصيان والخروج على الحاكم، بل نظمت الشورى وإجماع خيار المسلمين أساسًا لبيعة الحاكم (من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة الجاهلية).
ثالثًا: قامت الشريعة الإسلامية على أساس رفع الحرج، ويسر التكاليف، والبساطة في كل شيء، قال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾، كما قامت على رفض التعقيد والبحث عن المشقة فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾.
رابعًا: قامت الشريعة على التدرج في التشريع كما تدرجت في تحريم الخمر.
خامسًا: الأخذ بالسنة النبوية مصدرًا أساسيًا مع القرآن الكريم لتطبيق الشريعة الإسلامية حيث يقول الله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾.
سادسًا: تتحرك الشريعة الإسلامية في مواجهة كل المستحدثات على الساحة العالمية في أي زمان ومكان، تستقبل الأزمنة كلا وتواجه مشكلاتها عن طريق فتح باب الاجتهاد الشرعي في كل الأمور إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ويقرر علماء الأصول ومن بينهم الإمام الشاطبي أن أحكام الشريعة الإسلامية قسمان:
1-قسم يتعلق بشؤون الآخرة وهو الفرائض والعبادات وكلها قائمة على الاتباع التعبدي وكل ما يندرج تحت هذا القسم الأخروي ولا نقاش فيه ولا يبحث عن علته.
القسم الثاني: ويتعلق بتنظيم شؤون الدنيا ومصالح العباد وكل أموره صالحة للاجتهاد بما يحقق مصالح الحياة في شؤون الدنيا ولا يتعارض مع النصوص الصريحة للشريعة الإسلامية.
وقد توسع الإمام مالك رحمه الله في القسم الثاني الخاص بشؤون الدنيا، فأباح أن يتم الاجتهاد على أساس قاعدة: المصالح المرسلة للناس والاستحسان عند الناس حتى قال رحمه الله: الاستحسان تسعة أعشار العلم ومعنى هذا إباحة المصالح المرسلة التي تجلب مصلحة الناس أو ترد عنهم مفسدة ولم يشهد الشرع لها بالبطلان، وذلك مراعاة لتجدد مصالح الناس بتجدد العصور في حدود القواعد الأصولية: لا ضرر ولا ضرار، والضرورات تبيح المحظورات، والمشقة تجلب التيسير، والمعروف عرفًا كالشروط شرطًا، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وبهذه تصبح الشريعة الإسلامية شريعةً حية نامية وتمثل ثروة تشريعية كاملة لأكمل دين ونعمة كبرى لخير أمة أخرجت للناس.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمد الشاكرين، الذي أنعم علينا بنعمة الإسلام، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، وبعد:
فإن العالم المجتهد الذي يتعرض لبيان حكم الله فيما تستحدثه العصور إنما يستنبط الحكم الشرعي للحدث الجديد بالقياس على مثيله في صدر الإسلام، فإذا لم يجد له مثيلًا يكون الاجتهاد في حدود ما أباحه الله لعباده: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾.
وقد اجتهد الرسول صلى الله عليه وسلم في أسرى بدر حيث لم تكن هناك حالة مماثلة. وأقر الرسول صلى الله عليه وسلم معاذًا على الاجتهاد حين بعثه إلى أهل اليمن، وسأله الرسول صلى الله عليه وسلم: «كيف تضع إن عرض لك قضاء؟»، قال معاذ: أقضي فيه بما في كتاب الله؟ قال الرسول: ماذا إذا لم يكن في كتاب الله. قال معاذ: بسنة رسول الله. قال الرسول: «فإن لم يكن في سنة رسول الله؟»، قال معاذ: أجتهد رأيي لا آلو. فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده على صدره مستحسنًا وقال: «الحمد لله الذي وفق رسول الله لما يرضي رسول الله».
ومن الأصول الفقهية كذلك أن (من اجتهد فأخطأ فإن له أجرًا واحدًا ومن اجتهد فأصاب فله أجران).
والمجتهد المعتصم بكتاب الله وسنة رسوله الكريم نفسه واجتهاده من الخطأ قال تعالى: ﴿وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾.
وأخيرًا فالشريعة الإسلامية هي صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة، وكمال الإسلام: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾، وأباحت كل ما على الأرض من حلال طيب:﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾. سوت بين الأغنياء والفقراء والضعفاء والأقوياء: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾، «كلكم لآدم وآدم من تراب».
حرمت الاعتداء على النفس: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا﴾، كما حرمت الاعتداء على المال: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ﴾.
دعت إلى حسن القدوة: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾.
أمرت بالعدل وحرمت الظلم: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾، وأمرت بالوفاء بالعهد: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ﴾، وكفلت الحياة للصغير حتى يكبر ويتكسب، وللفتاة أو الأرملة أو الخالية من الزوج حتى تتزوج، وللفقراء والمساكين حتى يغنيهم الله من فضله حتى يصون وجوه هؤلاء جميعًا من ذل الحاجة، رفضت الشريعة الإسلامية غلواء اليهودية ورهبانية المسيحية وكانت دينًا وسطًا: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾، ولا تؤاخذ العبد إلا بما فعله قادرًا مختارًا، قال صلى الله عليه وسلم: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه»، وقد اشترى الله من المؤمنين أنفسهم وأموالهم مع أنه سبحانه خالق النفس ورازقهم بالمال: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾، وبعد هذا يتضح لنا أنه ما من دولة تطبق شرع الله في أرضها إلا عم فيها الرخاء والخير والأمن، ونحمد الله تعالى أن هيأ لهذه الدولة الرشد والتوفيق في تحكيم شرع الله، اللهم اجزهم خير الجزاء، اللهم اجعلنا من عبادك الصالحين الذين يشكرونك على نعمك وآلائك الجسيمة. اللهم وفق ولاة أمور المسلمين لتحكيم كتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم تقبل منا الصيام والقيام ومصالح الأعمال، اللهم انصر عبادك الذين يجاهدون لإعلاء كلمتك، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في الشيشان وكشمير والبوسنة والهرسك وفي كل بلاد المسلمين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القاطنين، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، صلاة دائمة، وارض اللهم عن صحابته وزوجاته وأهل بيته والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا اللهم بعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون. أقم الصلاة.