بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى
الحمد لله معز من أطاعه ومذل من عصاه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
أيها الإخوة: فإن الله سبحانه وتعالى أنعم علينا بنعمة العقل، وميزنا عن سائر خلقه، وخلق كلا منا رجلًا سويًا وكرّمنا وفضلنا على كثير ممن خلق تفضيلًا، لهذا يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾.
ومن حكمة الله لبني البشر أن الإنسان لا يأنس إلا بغيره من بني جنسه فيرتاح إليه، فنجد الأب والأم والأبناء والإخوة، فبهم تتكون الأسر والمجتمعات فيتعايش الناس بعضهم مع بعض، وبهم تتكون الحكومات التي ترعى شؤونهم وتقوم عليهم.
ومن ثم فقد يقع الخلل بين أفراد المجتمع فتضعف النفوس عن تطبيق أوامر الله واجتناب نواهيه، فكان لابد من إيجاد العقوبات لتصون الناس وتحفظ عليهم دينهم ونفوسهم وأعراضهم وعقولهم وأموالهم، أي لتحفظ عليهم مقومات حياتهم ودعائم إنسانيتهم، والركائز الأساسية لتقدمهم وأمنهم واستقرار حياتهم وإبعاد شبح الجريمة عنهم، فإن الطباع البشرية والغرائز والشهوات والانفعالات والعواطف تميل إلى قضاء الشهوة واقتناص الملاذ وتحصيل مقصودها، وكل محبب لديها من الشر والزنا والتشفي بالقتل وأخذ مال الغير، والاستطالة على الآخرين بالسب والشتم والضرب، وبخاصة من القوي على الضعيف ومن العالي على الداني، فاقتضت الحكمة شرع هذه العقوبات حسمًا لمادة الفساد وزجرًا عن ارتكابها، ليبقى العالم على نظم الاستقامة وعلى المنهج السوي، إذن فالهدف من وضع العقوبة هو محاربة الجريمة ومنع وقوعها أو تقليلها، والإسلام في هذه الغاية مبلغًا لم يصل إليه تشريع قبله أو بعده، وذلك أنه حارب الجريمة قبل وقوعها ثم قضى عليها بعد وقوعها قضاء يذهب أثرها ويقلل مضارها، وقد سلك في ذلك طرقًا كثيرة، نذكر منها:
1-طرق التربية بإعداد قاعدة صلبة قوية المناعة ضد جراثيم الجرائم ثم بإحاطة هذه القاعدة بتربية صالحة لوقايتها من العدوى، فعمل على اختيار البذرة الصالحة في تكوين الأسرة، وتربية الأبناء والبنات وهكذا.
2-تدعيم التربية بالموعظة الحسنة عن طريق إحاطة الفرد بالمواعظ التي تؤثر في القلوب وتملؤها بتقوى الله والرغبة في مرضاته، ثم شفَّع هذه الموعظة بالوعيد من ارتكاب الآثام.
3-وضع حواجز احتياطية معنوية تمنع الجرائم قبل وقوعها، حيث نراه ينفي الإيمان عن مرتكبيها ويهدد فاعليها بالخزي والعار في الدنيا والنكال والفضيحة والعذاب الأليم في الآخرة. كما وضع موانع حسية لمن يكثر خطره، وتكون مجرد الإشاعة فيه جرمًا عظيم الأثر في المجتمع، كما في جريمة الزنا، حيث أمر بالاستئذان وغض البصر وتستر المرأة وعدم الخلوة بين الجنسين دون زوج أو محرم ومنع سفرها إلا مع أحدهما، إلى غير ذلك مما ينفي شبه هذه الجريمة، كما فتح باب الحلال وهو الزواج وحث عليه ويسر سبله ليكون وقاية له من الوقوع في الحرام.
أيضًا هناك الرقابة الواجبة على كل فرد من أفراد المجتمع الإسلامي كما قال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}، ثم مع هذه الرقابة العامة رقابة خاصة بطائفة من المؤمنين يقومون بها احتسابًا لله حيث يقول الله تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾.
وإنما عني الإسلام بالرقابة الحسية دعمًا للرقابة المعنوية النابعة من ضمير المؤمن، لأن من الناس من يخشى الفضيحة في المجتمع فيحاول التستر على نفسه وفي ذلك منع لإشاعة الفاحشة.
لكن يا ترى ما موقفنا ممن يعمل على إشاعة الفاحشة في المجتمع؟
أليس هذا ممن طمس الله على قلبه فأعمى بصره فأولئك ممن قال الله تعالى فيهم: ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾.
ألا يخاف الله أن تنتشر الرذيلة في بيته، قال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾، وهنا عبر عن الزنا بكلمة الفاحشة زيادة في الاشمئزاز والتقزز من ذكر اسمها بالاسم الحقيقي لها، كما جعل انتشارها بين المؤمنين قبيح مذموم، فما هو العذاب الأليم في الدنيا؟
نعرف أن من أُقيم عليه حد القذف يعتبر نال العذاب الأليم في الدنيا، ولكن من لم يقم عليه الحد لعدم انكشاف أمره أو لعدم توفر نصاب الشهادة في القذف أو لعدم رفع دعوى عليه، فما هو العذاب الأليم في حق هؤلاء؟
مثل هؤلاء ضرب الذلة على صاحبه، فلا يظهر على السطح ويخشى أن يجاهر الناس بالإشاعات، ويستمر في العمل بخسته ونشره لفاحشته في الخفاء والسر من القول للآخرين، أم هل العذاب أن يصاب في عرضه مما ابتلي به الآخرين من إشاعة الفاحشة بين الآخرين؟ أم هل العذاب عذاب النفس بالشعور بعقدة الذنب والقلق النفسي الذي يجعله مضطربًا؟
أم كل هذا أم بعضه فكل ما ذكر وغيره محتمل؟ لأن كلمة عذاب جاءت نكرة فهي عامة في جنسها.
ووصف الله العذاب بأنه أليم زيادة في التبكيت، فلا يظن من ينشر الفاحشة ولا يقام عليه الحد في الدنيا أنه قد نجا، فإن لم يكن يحسب حسابًا لله ولعذاب النفس، وتحقير الآخرين له في الدنيا؛ فإن عذاب الله الأخروي ينتظره فلا يفلت من عقاب الله تعالى.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۚ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده نستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا وقدوتنا وإمامنا محمد بن عبدالله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
وبعد:
تعلمون أيها الإخوة أن الفاحشة وباؤها عظيم على الفرد والمجتمع، كذلك انتشارها بين صفوف المجتمع أشد خطرًا وفتكًا، لذا يجب التنبه من انتشارها بالحيلولة دونها عن طريق القضاء على أسبابها كالفضائيات التي قوضت مضاجع الآباء والأمهات، وأماكن أشرطة الفيديو، والسفور والاختلاط بين الجنسين وسفر النساء بدون محرم، وفتح الباب للشباب والمراهقين للسفر إلى بلاد الإباحية دون رقيب، ولنتذكر أن الله استرعانا هؤلاء الشباب فلنحافظ على هذه الأمانة ولنقم عليها، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته».
اللهم احفظنا واحفظ شبابنا وشاباتنا عن كل ما يغضب وجهك، اللهم حصن فروجنا وألسنتنا عن معاصيك، اللهم وفق ولاة الأمور لتحكيم كتابك والقيام على حدودك، اللهم زدهم منعة وتوفيقًا يا أراحم الراحمين، اللهم أحسن خاتمتنا في الأمور كلها، اللهم انصر عبادك في جميع بلادك، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.