بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى
إن الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد:
لقد خلق الله الإنسان في هذه الحياة وهيأ له من الأسباب والمسببات ما يضمن له صلاح حياته القلبية والبدنية، إن هو أحسن استغلالها وترويض نفسه عليها، فالإنسان في هذه الدنيا في مجاهدة مع أحوالها ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ﴾ مكابدة لنفسه ومكابدة في مصاعب الحياة ومشاقها وأهوالها، يَغلب تارة ويُغلب أخرى، يفرح ويحزن، يضحك ويبكي وهكذا دواليك، فالحياة لا تصفو لأحد من أكدارها، يختلف الناس في خوض معركتها، يتعثر أقوام فيستبطئون ويبادر آخرون.
عباد الله: وإن من أكدار الحياة، حالة تنتاب كثيرًا من الناس، بل لو قيل (لا يسلم منها أحد) لم يكن ذلك بعيدًا، والناس فيها بين مستقل ومستكثر.
معاشر المسلمين: إن ضيق الصدر وما ينتاب المسلم من القلق والأرق أحيانًا، مسألة قد تمر على كل واحد منا تطول مدتها مع قوم وتقصر مع آخرين.
ترى الرجل إذا أصابته تلك كئيبًا كسيرًا تتغير حاله وتتنكر له نفسه، قد يعاف الطعام الشراب، بكاء وحزن وحشة وذهول، وقد تغلب أحدهم نفسه فيشكو أمره إلى كل من يجالسه ويهاتفه، دون أن يجاهد نفسه طرفة عين.
يراه جليسه ومن يشاهده فيرى عليه من لباس الهم والغم ما الله به عليم، يستسلم للشيطان بجميع أحاسيسه، فيظهر لك من اليأس والقنوط والشكوى ما يغلق أمامك الكثير من أبواب الفرح والتنفيس، حتى إن بعض أولئك يوغل في الانقياد لتلبيس الشيطان، ويكاد أن يقدم على خطوات تغير مجرى حياته، من طلاق للزوجة وترك الوظيفة وانتقال عن المنزل، وما يتبع ذلك، وقد يصل أمره إلى الانتحار؛ مما يدل على عظم تلبيس إبليس عليه.
أيها الإخوة: إن للهم أسبابًا حسية ومعنوية، وقد يكون الهم مفاجئًا لصاحبه لا يعرف له سببًا، ولما كانت تلك الحالة تعتري كثيرًا من المسلمين، فتؤثر على عبادتهم وسلوكياتهم، ناسب أن يكون الكلام عن الأسباب التي تعين على انشراح الصدر، وتنقله من تلك الغشاوة التي أظلمت عليه، إلى حالة يشعر فيها بالراحة النفسية والطمأنينة القلبية.
فيقال وبالله تعالى التوفيق إن أسباب انشراح الصدر كثيرة، يُكتفى في هذا المقال بذكر ثمانية أسباب منها، علها أن تكون شاملة لغيرها مما لم يذكر.
إن من أعظم الأسباب لشرح الصدر وطرد الغم، بل هو أجلّ الأسباب وأكبرها، قوة التوحيد وتفويض الأمر إلى الله تعالى، بأن يعتقد العبد اعتقادًا جازمًا أن الله عز وجل وحده هو الذي يجلب النفع ويدفع الضر، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، عدل في قضائه، فعلى العبد أن يحرص على عمارة قلبه بهذه الاعتقادات وما يتبعها، فإنه متى كان كذلك، أذهب الله غمه، وأبدله بعد خوفه أمنًا.
السبب الثاني: حسن الظن بالله تعالى، وذلك بأن تستشعر أن الله تعالى فارج لهمك كاشف لغمك، فإنه متى ما أحسن العبد ظنه بربه، فتح الله عليه من بركاته من حيث لا يحتسب، فعليك يا عبد الله بحسن الظن بربك؛ ترى من الله ما يسرك، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا عند ظن عبدي بي، إن ظن خيرًا فله وإن ظن شرًّا فله» أخرجه الإمام أحمد وابن حبان.
السبب الثالث: كثرة الدعاء والإلحاح على الله بذلك، فهو سبحانه يجيب دعوة المضطر إذا دعاه، ويكشف السوء، وهو رحيم بعباده، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سبي، فإذا امرأة من السبي تحلب ثديها تسعى، إذا وجدت صبيًا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أترون هذه طارحة ولدها في النار؟»، قلنا: لا وهي تقدر على أن لا تطرحه، فقال صلى الله عليه وسلم: «الله أرحم بعباده من هذه بولدها» أخرجه البخاري.
السبب الرابع: تفقد النفس والمبادرة إلى ترك المعاصي، أتريد مخرجًا لك مما أنت فيه وأنت ترتع في بعض المعاصي؟ يا عجبًا لك! تسأل الله نفسك حاجاتها وتنسى جناياتها، ألم تعلم هداك الله أن الذنوب باب عظيم ترد منه المصائب على العبد ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾.
السبب الخامس: المحافظة على أداء الفرائض والمداومة عليها، والإكثار من النوافل من صلاة وصيام وصدقة وبر وغير ذلك، فالمداومة على الفرائض والإكثار من النوافل، من أسباب محبة الله تعالى لعبده، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله قال: من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذ بي لأعيذنه» رواه البخاري.
السبب السادس: الاجتماع بالجلساء الصالحين والاستئناس بسماع حديثهم والاستفادة من ثمرات كلامهم وتوجيهاتهم، فالجلوس مع هؤلاء مرضاة للرحمن، مسخطة للشيطان، فلازم جلوسهم ومجالسهم واطلب مناصحتهم، ترى في صدرك انشراحًا وبهجة ثم إياك والوحدة، احذر أن تكون وحيدًا لا جليس لك ولا أنيس، وخاصة عند اشتداد الأمور عليك، فإن الشيطان يزيد العبد وهنًا وضعفًا إذا كان وحيدًا، فالشيطان من الواحد أقرب ومن الاثنين أبعد وليس مع الثلاثة، وإنما يأكل من الغنم القاصية.
قال تعالى: ﴿أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ﴾، وقال تعالى: ﴿فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ۖ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا﴾.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بالآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه سبحانه، وأشهد أن نبينا محمدًا عبدالله ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ أما بعد:
حسن الظن بالله والموت:
إن حسن الظن بالله رفيقُ دربٍ، ومعين ركب، وصاحب أنس، عندما ينزل صاحبه منازل الموت؛ فعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاثة أيام يقول: «لا يموتنَّ أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل»، قال النووي رحمه الله تعالى: “ومعنى (يحسن الظن بالله تعالى): أن يظن أن الله تعالى يرحمه، ويرجو ذلك، ويتدبر الآيات والأحاديث الواردة في كرم الله سبحانه وتعالى، وعفوه ورحمته، وما وعد به أهل التوحيد، وما ينشره من الرحمة لهم يوم القيامة”.
وانظر إلى هذا الموقف الذي اختصر الحياة في لحظة، والنفس تقترب من مغادرة الجسد، يزور النبي صلى الله عليه وسلم شابًّا قد حضره الموت فقال له: «كيف تجدك؟»، قال: والله يا رسول الله، إني أرجو الله، وإني أخاف ذنوبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وآمنه مما يخاف».
لا تشك وأنت مؤمن بالله، ولا تتردد وأنت تعمل لله، ولا تقنط وأنت تدعو الله، ولا تستسلم وأنت معك الله، ولا تخف عند سكرات الموت وأنت تحسن الظن بالله.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصيبات الدنيا، ومتِّعْنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا.
اللهم يا سميع الدعوات، يا مقيل العثرات، يا قاضي الحاجات، يا كاشف الكربات، يا رفيع الدرجات، ويا غافر الزلات، اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.
اللهم إنا نسألك لولاة أمورنا الصلاح والسداد، اللهم كن لهم عونًا وخذ بأيديهم إلى الحق والصواب والسداد والرشاد، ووفقهم للعمل لما فيه رضاك وما فيه صالح العباد والبلاد.
﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾
سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.