بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
عباد الله: إن صلة المسلم بأخيه المسلم من أعظم الصلات وأقواها، لأن الجامع بينهما رابطة الدين، وقد وضع الشارع الحكيم ما يضمن بقاء هذه الصلة والرابطة، وحذر مما يفرق جمعها أو يكدر صفوها، بل وأمر بإصلاح أي خلل يطرأ عليها فقال تعالى: ﴿وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ۖ فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ ۚ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا ۖ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ .إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾، فأمر الله بالإصلاح عند التنازع وإلغاء العوارض التي تطرأ على توهين تلك الرابطة ثم قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ ۖ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ﴾.
ففي هذه الآيات من الأوامر ما يضمن بقاء تلك الرابطة، وفيها النهي عن بعض خصال تسبب الفرقة والشحناء.
فنهى الله عن السخرية والهمز والتنابز والتجسس، وفي المقابل رغب في التوبة بعد الإثم، وأمر باجتناب كثير من الظن ثم أمر بالتقوى وحث عليها.
وجاء تأكيد هذا المبدأ في السنة، وثبتت أحاديث كثيرة فيها التحذير من خصال توجب الفرقة بين المسلم وأخيه فمن ذلك ما أخرجه الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تباغضوا ولا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانًا كما أمركم الله ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام»، وفي لفظ عند مسلم: «المسلم أخو المسلم لا يخذله ولا يحقره، التقوى ها هنا وأشار إلى صدره، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه»، وعن البراء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تختلفوا فتختلف قلوبكم» رواه أحمد. وقال عليه الصلاة والسلام: «لا يأخذ من أحدكم متاع صاحبه لاعبًا ولا جادًّا، وإن أخذ عصا صاحبه فليردها عليه» رواه أحمد وأبو داود.
ومما يجمع هذا وما قبله قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه». ومن لوازم المحبة أن يتمنى لأخيه مثل ما يصيبه من الخير، وأن يكره لأخيه ما يكره لنفسه.
شاهد القول: أن المقصد الشرعي في المحافظة على رابطة الأخوة من أعظم المقاصد وأسماها، ويتأكد هذا المقصد عند احتياج المسلم لأخيه المسلم، وبخاصة إذا كانت الحاجة لأمةٍ من المسلمين هُضم حقها وبُغي عليها في أرضها.
عباد الله: إن ما يحدث في كثير من بلاد الدنيا من أذية المسلمين وسلب ديارهم وهتك أعراضهم أصبح أمرًا مألوفًا على الأسماع والأبصار، فلا تكاد فتنة تخبو نارها حتى تصب فتنة أخرى.
فمحن المسلمين ومصائبهم أصبحت أمرًا مألوفًا فأعداء المسلمين لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، فكم من عهد نقضوه، وكم من وعد أخلفوه.
وهنا وقفات يسيرة مع قضايا المسلمين في محنهم ومصابهم:
الوقفة الأولى:
أن أعداء الإسلام وأعوانهم يقاتلون قتالًا عقديًا قبل كل شيء، والقتال العقدي أعظم أنواع القتال، إذ إن قتالًا من هذا النوع يجمع صاحبه بين القوة المعنوية والحسية، ويستميت الإنسان في ذلك، فكيف إذا ضم إلى ذلك عدم وجود الوازع؟
الوقفة الثانية:
إن أمم الكفر على اختلاف أجناسها وألوانها قد أقرت هذا الخزي والعار وظهر ذلك جليًّا من صمتهم تارة وثرثرتهم تارة أخرى، بل وتأييدهم لذلك الخزي تصريحًا وتلويحًا، وهذا مما يؤكد العداء للإسلام والمسلمين.
الوقفة الثالثة:
إن أعداء الإسلام يرفعون عقيرتهم بالمطالبة بحقوق الإنسان، أي حقوق للإنسان يريدون ودماء المسلمين أرخص الدماء وهدم المساجد والمدارس أصبح أمرًا مألوفًا عند كل ذي سمع وبصر. تهدم كرامة المسلم وتحرق أرضه ويهتك عرضه ويشرد أولاده ثم ينادي أولئك بحقوق الإنسان، بينما محاضن الحيوانات ومقابرها وجمعيات الدفاع عنها لا تعد ولا تحصى.
فيالله العجب تهدر كرامات لإنسان وتحفظ حقوق الحيوان، لكن هذا العجب يزول وينقضي إذا علمنا أن حقوق الإنسان مقصورة عندهم على غير المسلمين.
الوقفة الرابعة:
إن هذه الأحداث وما سبقها وما يتلوها والعلم عند الله مما يوجب على المسلمين أن يتداركوا أمرهم، ويزيلوا ما بينهم من الشقاق والخلاف، وأن يجعلوا نصب أعينهم أنه لا عزّ لهم ولا تمكين إلا بالترابط وتحكيم شرع الله فيما بينهم، وأن يعلموا علم اليقين أن المخالف في الدين مهما طال صمته ومكثه فالشر كامن فيه حتى يحقق رغبته ومراده ﴿وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾.
الوقفة الخامسة:
إن ما حدث ويحدث من تسلط الأعداء على آحاد المسلمين وجماعاتهم إنما هو بسبب الذنوب والمعاصي ﴿وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾، ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾، استسقى العباس بن عبدالمطلب بالصحابة رضوان الله تعالى عنهم وكان من جملة دعائه: (اللهم إنه لم تنزل عقوبة إلا بذنب ولا تنكشف إلا بتوبة).
شاهد القول: أن تغير أحوال المسلمين مرهون برجوعهم إلى ربهم: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ اللهم أصلح أحوال المسلمين وارزقهم العزة والكرامة واكشف عنهم الذلة والإهانة إنك سميع مجيب.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه.
الخطبة الثانية
الحمد لله ولي الصالحين، وأشهد ألا إله إلا الله معز من أطاعه ومذل من عصاه، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
الوقفة السادسة:
أن تكون تلك القضايا وما كان على شاكلتها سببًا في زيادة الترابط والتواثق بين المسلمين، وأن يظهر ذلك جلياً في مشاركتنا لهم في آمالهم وآلامهم، فنفرح لفرحهم ونحزن لحزنهم، فالمسلمون كما قال صلى الله عليه وسلم: «كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»، وهذه الوحدة الشعورية ألمًا وأملًا يؤكدها قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن بالمدينة أقوامًا ما سرتم مسيرًا ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم فيه وهم بالمدينة حبسهم العذر» رواه البخاري ومسلم بألفاظ متقاربة.
الوقفة السابعة:
علينا أن نبذل لأولئك المستضعفين من أموالنا زكاة وصدقة، فهذا من المشاركة معهم في جهادهم، بل قد يكون الجهاد بالمال أعظم من الجهاد بالنفس، لأن بذل المال الكثير يكون نفعه متعديًا، ونفع جهاد النفس يكون مقصورًا على صاحبه أحيانًا، وقد ظهرت سابقًا ولاحقًا آثار الدعم من بلدنا حكومة وشعبًا. فنسأل الله أن يزيد المحسنين خيرًا إلى خيرهم وأن يعظم لهم الأجر والمثوبة.
الوقفة الثامنة:
أن نجعل لقضية أولئك المستضعفين نصيبًا من مجالسنا، بل الأولى أن تكون تلك القضية من القضايا الأساسية لتصبح هاجسًا دائمًا بيننا، وهذا الهاجس وذلك الطرح يفعل في النفس فعلًا عظيمًا، مما يجعل المسلم يتفاعل مع إخوانه، فإذا تذكر حالهم جعل لهم نصيبًا من دعائه وماله ووقته.
الوقفة التاسعة:
أن تكون هذه الأحداث والقضايا مذكرة لنا بنعمة الله علينا من أمن وأمان ورغد عيش، وأن تلك النعم من أعظم النعم بعد نعمة الإسلام، فحذارِ حذارِ من التفريط في شكر النعم والتهاون بأسباب زوالها، فإن النعم كما قيل: بشكرها تقر، وبكفرها تفر، وخير من هذا القيل قول الله تعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾. ولنعلم علم اليقين أن الذي ألبسنا لباس الأمن والأمان سبحانه قادر على أن يسلط علينا ما سلط على الأمم حولنا إن نحن تولينا على صراطه المستقيم.
فنسألك اللهم أن تحفظنا بحفظك وأن تكفينا شر تسلط الأعداء وشر زوال النعم، وأن تصلح أحوالنا وأحوال المسلمين، اللهم إن أعداء الإسلام المحاربين قد قالوا فكذبوا وقد عاهدوا فغدروا وقد خاصموا ففجروا وقد ائتمنوا فخانوا، الله يا ذا الأسماء الحسنى ويا ذا الصفات العلى، اللهم فرق جمعهم وشتت شملهم ومزق كلمتهم، اللهم يتّم أطفالهم ورمل نساءهم، اللهم ارفع عن المسلمين محنتهم، اللهم نجّ المستضعفين من المسلمين، اللهم احفظ أعراضهم وأموالهم وبدلهم من بعد خوفهم أمنًا.
اللهم حرر الأقصى من أيدي اليهود الغاصبين، اللهم من أراد بلادنا بسوء وحكامنا بفتنة وعلماءنا بمكيدة وشبابنا بضلال اللهم فاجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميرًا عليه، اللهم احفظ بلادنا من شر الأشرار ومن كيد الفجار، اللهم اشف مرضانا ومرضى المسلمين واغفر لنا ولموتانا وموتى المسلمين، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، دعوناك ربنا فأجبنا، وسألناك خالقنا فأتنا سؤلنا، وصلى الله وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى الآل والصحب ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على آلائه يزدكم ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.