بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى
الحمد لله نحمده نستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى وسلوه أن يهديكم لأحسن الأخلاق، إنه لا يهدي لأحسنها إلا هو، وأن يجنبكم سيء الأخلاق لا يصرف عنكم سيئها إلا هو.
عباد الله: قال عز وجل: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ﴾.
معاشر المسلمين: إن من الصفات الذميمة التي ينبغي للمسلم الحذر من الاتصاف بها، التي جاء الشرع بذمها صفة الحسد؛ ذلك لأن الحاسد عدو لنعمة الله، يتسخط لقضائه غير راض بقسمته بين عباده، والحسد أول ذنب عصي الله به في السماء، حين حسد إبليس أبانا آدم وزوجه، وهو أول ذنب عصي الله به في الأرض حين حسد ابن آدم أخاه حتى قتله.
معاشر المسلمين: لا يتصف بالحسد إلا ذوو النفوس الضعيفة، فذنب المحسود إلى الحاسد دوام نعمة الله عليه لا غير، وشر الحسد عظيم.
قال أبو الليث السمرقندي: يصل إلى الحاسد خمس عقوبات قبل أن يصل حسده إلى المحسود: أولها: غم لا ينقطع، الثانية: مصيبة لا يؤجر عليها، الثالثة: مذمة لا يحمد عليها، الرابعة: سخط الرب، الخامسة: يغلق عنه باب التوفيق.
معاشر المسلمين: وإن مما يدعو إلى العجب في حال الحاسد أنه يحسد قرينه أو صديقه على نعمة أتاه الله إياها.
ويكون في الحاسد شح بالفضائل وبخل بالنعم، ليست إليه، فيمنع منها، ولا بيده فيدفع عنها، لأنها مواهب قد منحها الله من شاء فيسخط الله عز وجل في قضائه، ويحسد على ما منح من عطائه، وإن كانت نعم الله عز وجل عنده أكثر، ومنحه عليه أظهر، وهذا النوع من الحسد أعم الأنواع وأخبثها.
فليس لصاحبه راحة، ولا لرضاه غاية، فإن اقترن بشر وقدره كان بورًا وانتقامًا، وإن صادف عجزًا ومهانة كان جهدًا وسقامًا. قال أحد السلف: الحسود من الهم كساقي السم فإن سرى سمه زال عنه همه.
معاشر المسلمين: ولو لم يكن من ذم الحسد إلا أنه خُلقٌ دنيء يتوجه نحو الأصدقاء والأقارب ويختص بالمخالط والمصاحب، لكانت النزاهة عنه كرمًا والسلامة عنه مغنمًا، فكيف وهو بالنفس مضر، وعلى الهم مصر. قال معاوية – رضي الله عنه -: (ليس في خصال الشر أعدى من الحسد يقتل الحاسد قبل أن يصل إلى المحسود).
معاشر الأحباب: ينتشر الحسد بين بعض الباعة فما أن يرى أحدهم إقبال الناس على جاره حتى تشتعل جذوة الحسد في قلبه، فيظل يفكر في جاره وبيعه وإقبال الناس عليه، حتى يتمنى انصراف ذلك عنه وإقبالهم على محله، وينسى أو يتناسى أن الأرزاق بيد الله، وأنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، وأن رزق الإنسان ليس ينقصه التأني، وليس يزيد في الرزق العناء، لربما جلس فلان من الناس فكان موضوع حديثهم في أمر مباح، وفجأة نقل الحديث أحدهم إلى محل أحد الناس وازدحام المشترين فيه، فأصبح حديث المجلس وانتشر الحسد بينهم، ولا تسمع إلا منكرًا ولا الله ذاكرًا في ذلك المجلس، وينتشر الحسد أيضًا من بعض المزارعين حينما تكون الثمار صالحة والتجارة رابحة، وبين الحرفيين والصناع والمهنيين وكل بحسبه حتى بين الأكاديميين والتجار والوجهاء.
وقد يكون سبب توفيق هذا وذاك أنه رجل محب للخير، مؤد لحق الله، كثير الصدقة، عظيم التوكل على الله، مبتعدًا عن الحسد، أو من حسده ليس بتلك المنزلة، وما حاول التخلق بأخلاقه، وإنما حسده على ما آتاه الله من فضله، فالحاسد لا هو بالذي استفاد ولا يريد من غيره أن يستفيد، ولكن كما قال عبدالله بن المعتز:
اصبر على كيد الحسود فـــــإن صبرك قــــاتلــه
كالنار تأكل بعضهـــــــا إن لم تجد ما تأكله
اللهم اجعلنا شاكرين لنعمك التي مننت بها علينا، اللهم إنا نعوذ بك من شر حاسد إذا حسد، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
أيها الناس: فليس الحسد للمحسود شرًّا محضًا، بل ربما كان الحسد منبهًا على فضل المحسود ونقص الحسود.
معاشر المسلمين: فأما ما يستعمله من كان غالبًا عليه الحسد، وكان طبعه إليه مائلًا لينتفي عنه ويسلم من ضرره وعدوانه، فأمور هي له حسم، فمن وسائل دفع الحسد ما يلي:
أولًا: اتباع الدين في اجتنابه، فإن الدين ينهى عن الحسد، فيقهر نفسه على مذموم خلقها.
ثانيًا: العقل الذي يستقبح به نتائج الحسد ما لا يرضيه، ويستنكف من هجنه وما فيه فيتصور أن الحسد يفعل بالحاسد أكثر من فعله بالمحسود.
ثالثًا: من وسائل دفع الحسد ما يرى الحاسد من نفور الناس عنه، وبعدهم منه، فيخافهم إما على نفسه من عداوة أو على عرضه من ملامة فيتألفهم بمعالجة نفسه.
رابعًا: الدعاء بصدق أن يطهر الله القلب من الحسد، فإن ظفر بأحد هذه الأسباب، وهدي إلى استعمال الصواب سلم من سقامه واستبدل بالنقص فضلاً، واعتاض من الذم حمدًا.
معاشر المسلمين: وإذا بلي الإنسان بحاسد من حساد النعم وأعداء الفضل، استعاذ بالله من شره، وتوقى مصارع كيده، وتحرز من غوائل حسده، وأبعد عن ملابسته، لعضل دائه وإعواز دوائه فقد قيل: حاسد النعمة لا يرضيه إلا زوالها.
اللهم طهر قلوبنا من الغل والحسد والنفاق وأعمالنا من الرياء وألسنتنا من الكذب وأعيننا من الخيانة، اللهم ألف بين قلوب المسلمين وأصلح ذات بينهم، اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداءك أعداء الدين، اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح ولاة أمورنا وارزقهم البطانة الصالحة يا رب العالمين، اللهم أبرم لهذه الأمة أمرًا رشيدًا يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معاصيك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين.
اللهم صلِّ وسلم على نبيك وعبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بفضلك وإحسانك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون. فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على آلائه يزدكم ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.