بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، نعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده لا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك لله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وارض اللهم عن الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾.
عباد الله: انقضت إجازة العام الدراسي، طويت فيها صحائف ورحل منها من الدنيا من رحل، وولد فيها من ولد، وأطل على الدنيا خلالها جيل جديد، وعمّر من عمر ﴿وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾، ومن جانب آخر كسب من كسب في هذه الإجازة بحفظ الوقت وصرف الأعمار بطاعة الله وطلب علم، أو عمل مفيد لنفسه أو لمجتمعه أو للأمة من حوله، وفرط من فرط بكثرة النوم وإضاعة الوقت دون فائدة، أو صرفها بما يضر في دينه أو دنياه، وكذلك يتفاوت الناس دائمًا في تقدير قيمة الزمن، فلا تقوى الهمم، وهيهات أن يعود الزمن بعد ذهابه وسيكون شاهدًا للمرء أو عليه وفي سرعة الزمن عبرة موقظة لذوي البصائر.
أيها الشباب.. أيها الفتيات، وانقضت الإجازة وبدأ العام الدراسي الجديد، فبأي همة استقبلتم العام الجديد، والمؤمل فيكم استقبال العام بجدية في التحصيل العلمي وإخلاص في طلب العلم وتزينٍ بأخلاق العلم وارتداء لَبُوس العلماء، ولا ينبغي أن يكون الهدف الأول والأخير من العلم الحصول على الشهادة وتوفر الوظيفة، فهذه وإن كانت مهمة فالعلم أغلى وأجلّ، ولئن دعت الحاجة في الدنيا إلى الوظيفة والعمل، فالحاجة أدعى إلى تعلم العلم الذي به يصل المرء إلى المنازل العالية في الجنة، وبالعلم النافع يعرف المرء ربه وبه يتعلم أحكام الدين وأدب التعامل مع الآخرين، ويكفي العلم فخرًا ورفعة أن يقول الله عن أصحابه: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾، وإذا كان العلم يرفع بيتًا لا عماد له فالجهل يهدم بيت العز والشرف.
أيها المربون أنتم مؤتمنون على التعليم وعلى رعاية المتعلمين، هيئوا الفرص المناسبة لهم واعتمدوا الانطلاقة من الثوابت والأصول في شريعة الإسلام، جددوا في الوسائل التعليمية بما يساير العصر، واستحدثوا من البرامج التعليمية ما يجعل أبناءنا في مقدمة الركب، واجعلوا من التعليم أداة للصمود في حرب العقائد وغزو الأفكار والقيم، فالأمة مقبلة على مستقبل مخيف، تناوشه طروحات غريبة ويمسك بالقيادة غير المسلمين، وفرق بين تطوير التربية والتعليم بما ينفع الأمة في حاضرها ومستقبلها وبين التضليل وعلمنة التعليم، فتلك هزيمة مبكرة، بل وانتقال من الاستعمار العسكري إلى الاستعمار الثقافي، وليس الآخر بأقل خطرًا من الأول.
إنها مأساة حين تختلط في أذهان بعض المثقفين أو المثقفات حتمية العلمنة مع التطوير في أي جانب من جوانب الحياة، ومن أبرزها التربية والتعليم، ومأساة أخرى حين يظن آخرون أن من لوازم الأصالة نفي التطوير ولو كان سليمًا نافعًا، ولعل من المفيد أن نتذكر واحدة من توصيات المؤتمر الأول للتعليم الإسلامي المنعقد بمكة المكرمة عام سبعة وتسعين وثلاث مائة وألف للهجرة وقد جاء في هذه التوصية: (لا قيود على العلم النظري أو التجريبي في التصور الإسلامي سوى قيد واحد يتصل بالغايات والمقاصد، فلا ينبغي أن يستخدم في إفساد العقيدة والأخلاق كما لا يجوز أن يكون أداة للإضرار والعدوان).
معاشر المسلمين: ومن الحق والعدل أن نقول: إن المناهج الدراسية في هذه البلاد المباركة تُعدُّ من أفضل المناهج في عالمنا الإسلامي، ورغم وجهات النظر الغربية التي تُطرح أحيانًا لتغيير المسار الآمن، فلا يزال عند المسؤولين قناعة بأهمية التميز والأصالة في مناهج بلاد الحرمين وبما لا يتعارض مع التطوير المثمر والتجديد للأحسن، ولا سيما ونحن في زمن باتت الدول تعنى بتراثها وتنطلق من أصولها العقدية والفكرية.
ونحن في هذه البلاد نفخر بذكر تجربة في التعليم طُبقت أول ما طُبقت في بلادنا، ثم عم نورها الأرض من حولنا، تلكم هي التجربة الأولى في التعليم التي قادها محمد صلى الله عليه وسلم بتوجيه رباني ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾، وحينها كانت أمة العرب أمة أمية، وكانت الأمم من حولها تفاخر بعلمها وحضارتها، ولكن علم هؤلاء وحضارتهم أضاف إلى الكون ظلمة وأسبغ على الشعوب الذلة والمهانة، وساد الظلم وأسنت الحياة. فبعث المعلم الأول بها الحياة من جديد، بمنهج رباني يقوم على تحرير الناس من كل عبودية سوى العبودية لله، وتعليم الناس ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، وعلى أضواء هذا العلم الكاشف تلاشت الظلمات، وبدأ بساط العلم وطيّ الجهل وانتشر الخير وعمَّ العدل.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بالآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي أنزل على رسوله أول ما أنزل ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ . الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾، والصلاة والسلام على النبي الأمي الذي علمه ربه ما لم يكن يعلم فعلّم الأميين، وفاق أدبه وخلقه وعلمه أهل الكتاب ﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ﴾ اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين وبعد:
إخوة الإسلام: فمن الوقفات في بدء العام الدراسي الجديد وقفةٌ مع المعلمين والمعلمات، تذكرهم بأمانة التعليم ومسؤولية التربية وأهمية القدوة والإخلاص في الأداء وربط المعلومة بالواقع ومتابعة الطلاب والطالبات، وتشجيع النابهين وإعانة المتخلفين وتقويم ما انحرف من سلوك، وعدم تكليف الطلاب والطالبات ما يشق عليهم أو أوليائهم.
وهنا وقفة أخرى يشترك في ضرورة التنبيه إليها إدارة المدرسة مع المعلمين مع الأولياء، ألا وهي عدم المبالغة في تأمين الأدوات المدرسية والإسراف في الطلبات إلى حد يرهق الأولياء، وربما كسر قلوب الفقراء الذين لا يجدون ما يوفرون به هذه المتطلبات من جانب، ويجدون إلحاحًا من أبنائهم وبناتهم على توفيرها من جانب آخر، يدخل في هذا الجانب إسراف بعض الأولياء في النقود التي يصرفونها لأبنائهم وبناتهم للفسحة بما يفوق حاجتهم ويؤثر على نفسيات أبناء الأسر الفقيرة وزملائهم، وتحية للأولياء المقتصدين ولو كانوا قادرين، واضعين نصب أعينهم مشاعر الآخرين.
وهنا اقتراح حري بالدراسة، وهو دفع مبلغ من المال محدد من كل طالب وطالبة مع بداية الفصل، وتتولى المدرسة تأمين فسحة يومية مناسبة لكل طالب وطالبة على حد سواء، فذلك يريح الأولياء من جانب، ويشعر الطلاب بالمواساة من جانب آخر، وربما كان فيه ترشيد للنفقة من جانب ثالث، وتسهم المدرسة فيه بتأليف قلوب الطلاب والطالبات وإشراك بعضهم في خدمة بعض من جانب رابع وهكذا.
وكذلك الأدوات المدرسية لو أمكن تحديدها من قبل المدرسة بشكل جماعي محدد ومقتصد لإراحة الأولياء والمدرسة. إنها مشكلة أن يتعلق الطالب أو الطالبة بشكليات التعليم ويتنافس الأولياء في تأمين أحسن الأنواع، أما لبُّ التعليم والهدف من التحصيل فلا نجد فيه مثل هذه المنافسة.
وهنا أقف مذكرًا إخواني الطلاب وأخواتي الطالبات بمسألة غاية في الأهمية، بل لعلها الهدف من التعليم أساسًا ألا وهي العمل بالعلم واستثمار العلم وسيلة لنهوض الأمة وتقدمها، وتلك مسألة لا ينفرد الطلاب في التنبيه عليها، بل هي جزء من مسؤولية المعلمين والمعلمات والآباء والأمهات، فما قيمة العلم بلا عمل؟ إن رسالة التعليم لا تعني في أهدافها وغاياتها أن يحمل الطلاب والطالبات على عواتقهم كمًّا من المقررات طيلة فصل أو عام، ثم يرون أنهم يتخففون منها بأداء الامتحان.
إن رسالة التعليم لم تبلغ الغاية منها إذا حفَّظت طالبًا أو طالبةً نصوصًا في أهمية الصلاة وكيفية أدائها وشروطها وواجباتها، فإذا بالطالب أو الطالبة لا يصلي إلا قليلًا أو يصليها على غير ما تعلمها، ووظيفة المعلم والمعلمة لا تكتمل بتلقين الطلبة والطالبات نصوصًا في بر الوالدين واحترام الآخرين، حين يوجد بين المتعلمين والمتعلمات عددٌ من العاقين لوالديهم والمتعاملين بنوع من الفظاظة والشدة مع الناس من حولهم، وقل مثل ذلك على بقية مفردات المناهج في النواحي السلوكية والخلقية، فلابد من وعي وتأكيد على النواحي العملية وربط التعليم بواقع الطلاب والطالبات، ولابد كذلك من مشاركة البيت في تطبيق ما تعلمه الدارسون والدارسات في المدرسة، ومثل ذلك يقال عن المناهج العلمية التطبيقية إذ لابد من تأمين المعامل الكافية في المدرسة، ولابد من متابعة الجديد في التقنيات الحديثة، ولابد كذلك من تأمين فرص للتدريب خارج المدرسة، ولابد من تحفيز النابهين على الاختراع وهكذا حتى لا تظل الأمة المسلمة دائمًا عالة على الآخرين في منتجاتها، وسوقًا تروج فيها بضائع الآخرين، وهي تمتلك عقولًا كعقول الآخرين أو أحسن، ولا تنقصها المادة الممولة للإنتاج والاختراع.
وهكذا نستثمر التعليم ونرقى بمستوى المتعلمين ونتجاوز الشكليات إلى الجواهر دون أن نخل بأصولنا ومنطلقاتنا الفكرية، أو نقعد عن مسايرة الركب في بناء الحضارة الحقة.
تلك أفكار ووقفات أثق أن المسؤولين في التعليم يقدرونها حق قدرها، وأثق أنها لا تغيب عن بال المعلمين والمعلمات، ويطمع الأولياء أن يصل إليها أبناؤهم، ويود الطلاب والطالبات لو استثمروا التعليم بشكل جيد، ولكنها الذكرى ولنتعاون جميعًا على تحقيقها، وبارك الله جهد كل عامل مخلص، وربك لا يضيع أجر من أحسن عملًا. اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وأقيموا الصلاة، إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.