بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى
الحمد لله القائل في محكم التنزيل: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أوحى إلى عبده فيما أوحى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾.
أيها المسلمون: حديث اليوم عن فئة تملأ علينا بيوتنا، وتسر لأحاديثهم قلوبنا، نضيق بتصرفاتهم حينًا ونستملح حركاتهم حينًا، حديث عن حبات القلوب وفلذات الأكباد وقرة العيون ورياض البيوت وبهجة الحياة.
إنهم أطفالنا وهبة الرحمن لنا ﴿يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ. أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا ۖ وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا ۚ إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾، تُعنى الشعوب كافة بأطفالها وتحدد الأيام العالمية للطفل، ولكن يظل الإسلام متميزًا في عنايته بالطفل، وتبدأ العناية به قبل وجوده، فأمه تُختار من ذوات الدين والنسب: «فاظفر بذات الدين تربت يداك».
وفي لقاء الزوج بالزوجة لإلقاء النطفة التي يشاء الله منها الطفل، يُحث على ذكر الله ودعائه بحفظ هذا المولود من كل مكروه، قال صلى الله عليه وسلم: «لو أن أحدهم إذا أتى أهله قال: بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فقضي بينهما ولدٌ لم يضرَّه الشيطان».
بل ويُحث العقيم على ذكر الله والاستغفار والصدقة، وقد يشاء الله أن يكون ذلك سببٌ لمجيء الولد، روى أبو حنيفة في مسنده عن جابر بن عبدالله رضي الله تعالى عنه أنه جاء رجلٌ من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما رزقت ولداً قط، ولا وُلِد لي، قال صلى الله عليه وسلم: «فأين أنت من كثرة الاستغفار وكثرة الصدقة ترزق بها؟»، قال جابر: فولد له تسعة ذكور.
إخوة الإسلام: وهؤلاء الأطفال الذين يمثلون البراءة وترسم على وجوههم وحركاتهم إشراقة الفطرة الربانية، ماذا صنعنا لهم بعد وجودهم؟ وما هي أنسب الطرق وأفضل الوسائل لتربيتهم؟ إن الطفل ببراءته ونقائه لوحة نظيفة يكتب فيها المربون ما شاؤوا، ولكن ما يُكتب اليوم له أثره في مستقبل الطفل غدًا، ومن هنا يأتي خطؤنا أحيانًا في عدم تقدير النظرة للطفل، فضلًا عن الكلمة أو السلوك أمام الأطفال بشكل عام.
وما من شك أن هذه النظرة أو الكلمة التي وجهناها للطفل، أو السلوك الذي تعاملنا به معه تظل كلها عالقة في ذهنه وذات أثر في سلوكه فيما بعده.
ومن أخطائنا مع أطفالنا أننا نُعنى كثيرًا بشكلهم الظاهر، ونوفر لهم أنواع الملابس وأصناف الطعام، وننزعج للمرض يصيب أبدانهم، ويضعف اهتمامنا بتهذيب نفوسهم وإصلاح قلوبهم، والعناية بأخلاقهم ومتابعة أدبهم، وينشأ من هذا وذاك نشأته معظمين للشكليات مهتمين بكماليات الحياة، وفيهم ضعفٌ ظاهر في تقدير القيم وعلو الهمم وخوض غمار الحياة، مع الحفاظ على محاسن الأخلاق وجميل السلوكيات.
ومن أخطائنا قلة الأوقات المخصصة للجلوس مع الأطفال، وإذا قُدر لنا الجلوس فدون برامج مدروسة، وربما غابت أهداف التربية أو عُدِمَنا الوسيلة المناسبة للتربية، ولو أن المربي أو المربية في كل جلسة علموه أدبًا أو حفظوه آية، أو نبهوه إلى خطأ أو علموه ما يجهل بأسلوب مناسب، وبقليل من الوقت؛ لتشكل من ذلك رصيدٌ نافعٌ لهذا الطفل يدعوه للمكارم ويحفظه من أخطائنا في البيوت، فخطأ المدرسة مع الطفل إنما يكون حين يركز على تلقينه المعلومات تحفيظًا، وتقلل من ممارسته لما حفظ سلوكًا عمليًا، فيظل الطفل يحفظ ذهنيًا، ويمارس سلوكيًا غير ما حفظ، وبهذه الطريقة التلقينية المجردة تضيع أو تضعف القيمة التربوية للتعليم ويتركز الهدف أكثر على النجاح أو الرسوب.
ومن أخطائنا في التربية وعلاج مشكلات الأطفال أننا ننظر إليهم أحيانًا على أنهم كبار، يدركون الخطأ ولكنهم يقصدون العناد، وبالتالي نحتد في النقاش معهم ونشتد في ضربهم، وليس كل مخالفة للوالدين أو خروج عن الأعراف السائدة في المجتمع من قبل الأطفال عنوان شرور وشقاوة؛ بل قد تكون من علائم النجابة مستقبلًا.
ومن أخطائنا الاستهانة بنوع الرفيق لهم في مرحلة الطفولة، فقد يرافقون من يبدأ الطفل خطوات الانحراف الأولى برفقتهم، وقد نجهل أن هذا الرفيق يهدم ما نبني أو يبني ما نهدم.
ومن أخطائنا ضعف همتنا في تربية أطفالنا على النماذج العالية للأطفال، أو عدم قدرتنا على مواصلة التربية حتى يكونوا رجالًا، ومما يشحذ الهمم أن نتصور أن هذا الطفل الضعيف اليوم حتى يكون من أفذاذ الرجال غدًا، أو تكون هذه البُنَيَّةُ المسكينة اليوم من خيار النساء غدًا، فلا تأسف على جهد بذلته ولا تحقرن طفلًا لطفولته.
وإذا قرأت في سير العظماء فتيقن أنهم مروا بمرحلة الطفولة حتمًا، ولكن طفولة العظماء والعناية بهم تُنتج بإذن الله رجالًا أو نساء عظماء، ويحدثنا الإمام الشافعي رحمه الله عن طفولته فيقول: حفظت القرآن وأنا ابن سبع سنين وحفظت الموطأ وأنا ابن عشر.
وأين الأمهات من أم أنس بن مالك رضي الله عنه؟ والتي ما فتئت أمه تعلمه وتربيه حتى دفعته وهو صغير للنبي صلى الله عليه وسلم لتكتمل على يديه صلى الله عليه وسلم تربيته ويحسن تعليمه.
والنماذج في هذا أكثر من أن تحصى وهي شاهدة على همم الأطفال وأثر تربيتهم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بالآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، أحمده تعالى وأشكره، وأثني عليه الخير كله، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
أيها الآباء وأيتها الأمهات: وأنتم أصحاب المسؤولية الأولى في تربية الأطفال وتنشئتهم على الخير وكذلك، حمَّلكم الإسلام الأمانة وأنتم مسؤولون عن رعايتها في بيوتكم، وخصكم نبي الهدى والرحمة بالحفاظ على فطرة الله التي فطر الأطفال عليها، وتأملوا في قوله صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه»، إذ ليس فيه ذكر للإسلام، فلم يقل أو يسلمانه، لأن الإسلام هو الأصل وهو فطرة الله، وعمل الآباء والمربين ينحصر في الحفاظ على هذه الفطرة سليمة نقية، وفي صقلها وتفجير طاقات الخير وينابيع الإبداع في أعماقها.
ويؤخذ من الحديث كذلك أن اتجاه الطفل الفكري والخُلقي والاجتماعي متأثرٌ أولًا وقبل كل شيء ببيئة الوالدين وأفكارهما وأخلاقهما وأساليب تربيتهما، فهل يقدِّر الأبوان عظم المسؤولية، ويعرفونهم بالإسلام على حقيقته، ويجنبونهم كل ما يخالف الإسلام أو يبعدهم عن صفاته وسمو مبادئه؟
ألا وإن القدوة مهمة بكل حال، والإسلام ينهى عن مخالفة الأفعال للأقوال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ . كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾، والقدوة مع الأطفال من أمضى وسائل التربية، والطفل يجيد التقليد والمحاكاة، وحقٌ على المربين أن يكونوا قدوة صالحة، وليحذروا أن تقع أعين الأطفال منهم على قبيح من القول أو منكر من الأفعال.
قال عقبة بن سفيان لمؤدب ولده: (وليكن أول ما تبدأ به إصلاح بنيّ: إصلاح نفسك، فإن أعينهم معقودةٌ بعينك، فالحسن عندهم ما استحسنت، والقبيح عندهم ما استقبحت).
أيها الآباء والمربون، أيتها الأمهات والمربيات: عوّدوا الأطفال على الخير فهم يعتادونه، وعلموهم ما ينفعهم فهم يسمعونه. قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: (عودوهم الخير، فإن الخير عادة).
وأول ما ينبغي تعليمه إياه كتاب الله منذ نعومة أظفارهم، وما أجمل المربي والمربية وهم يفتحون أذهان الناشئة على عظمة الله والخوف منه، من خلال صفحة الكون وآيات الله الباهرة في الأنفس والآفاق وبالأسلوب المناسب للطفل، ثم يتدرجون معهم إلى تعليم أركان الإسلام وبعض الواجبات والمستحبات والآداب النافعة، في الأكل والشرب والتحية وفي حال النوم واليقظة وما فيهما من أذكار وأوراد مستحبة. فإذا بلغ الطفل سبع سنين أمر بالصلاة تدريبًا له على الخير، ويضرب على التهاون بها إذا بلغ العشر، ويفرق فيها بين الذكر والأنثى في المضاجع إبعادًا لهم عن الريب وصونًا لهم من الانحراف.
ومن هدي السلف تدريب أطفالهم على الصيام، ومما ينبغي أن يُعلم أن الأطفال يستجيبون للتعليم والتأديب بشكل عام مع الحوافز المشجعة والوعود الصادقة بالمكافأة وإن كانت يسيرة.
وهناك أساليب أخرى في تربية الأطفال عن طريق الحكايات والقصص واستثمارها في توجيه الأطفال.
ولا شك أن اختيار الوقت المناسب للتوجيه لهم بكل حال ولا سيما مع الأطفال، ففي حال الركوب والأسفار وحين تنفتح نفسية الطفل للطعام والشراب، أو حين يقصده المرض فتجتمع له سجية الطفل ورقة القلب بالمرض، فهذه الحالات وأمثالها حرية بقبول الطفل للتوجيه أكثر من غيرها، وينبغي للمربين أن يستثمروها، وفي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ما يؤكد حسن اختيار الوقت للتوجيه والدعوة.
أسأل الله أن يصلح نياتنا وذرياتنا وأن يغفر زلاتنا ويعيننا على تربية أنفسنا وأبنائنا وبناتنا.
اللهم أصلح شباب المسلمين واهدهم سبل الرشاد وأنر لهم طريق الهدى والإيمان واجعل في قلوبهم الضياء والنور، وأبعدهم عن زلات الفتن ومزالق الردى والفسق والفجور والعصيان.
اللهم انصر الإسلام والمسلمين، اللهم وفق ولاة أمر المسلمين وارزقهم البطانة الصالحة، ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا وارحمنا، إنه تعالى قدير وبالإجابة جدير، اللهم وفق ولاة أمرنا بتوفيقك وكن لهم ناصرًا ومؤزرًا وأبطل شر كل من أرادنا بسوء وفتنة يا أرحم الراحمين، اللهم اغفر لنا وارحمنا ووالدينا وجميع المسلمين الأحياء منهم والأموات.
عباد الله: صلوا على نبيكم نبي الرحمة والهدى فقد أمركم بذلك المولى جل وعلا، فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.