بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى
الحمد لله القائل: ﴿وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ۚ وَجَاءَكَ فِي هَٰذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾.
عباد الله: امتن الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بالمعجزة الكبرى وهي القرآن الكريم، الذي حوى منهج الحياة على الأرض من أحكام مبينة لأخلاق، وفضائل مرتبة تذكر استقلالًا تارة وتنساب بين قصص تارة أخرى بألوان بيانية متعددة تدهش العقل الصحيح وتنميه، وتربي النفس وتزكيها.
وقد حظي القصص بالقسط الأوفر منها، إذ غلب عليه مكارم الأخلاق في ثياب العظات والعبر، ذات الطابع التوجيهي التربوي والإرشادي المهذب، قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾، وقال سبحانه: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾.
إن في تلك القصص لعبرًا تربوية وفوائد منهجية، ولذلك نرى القرآن يأخذ من كل قصة أهم مواطنها ويعرض عما عداه، ليكون تعرضه للقصص منزهًا عن قصد التفكه بها، من أجل ذلك لم تأت القصص في القرآن متتالية متعاقبة في سور متتالية ككتب التاريخ، بل كانت مفرقة موزعة على مقامات تناسبها؛ لأن معظم الفوائد الحاصلة منها لها علاقة بذلك التوزيع وهو التذكير والموعظة لكل قارئ وسامع.
كذلك استخدمت التربية القرآنية القصة وسيلة من وسائلها الناجعة في تحقيق أهدافها التربوية، لما لها من أثر عظيم في نفوس المتعلمين خاصة إذا وضعت في أسلوب عاطفي مؤثر، إلى جانب هذا نجد أن الله قد ساق لنا من قصص الأنبياء والرسل في القرآن الكريم ما يدل على أنه قد ربى من اصطفاهم وتعهدهم بالرعاية وطهرهم من كل ما يتنافى وعصمتهم، كما ورد ما يتضمن أن الله كان يُعلم رسله ويربيهم ويهذبهم بأن يضعهم أمام موقف يستكشفون من خلاله الحقائق والعبر، ففي قصة نوح عليه السلام مع ابنه نجد شخصية النبي الصابر الحريص على جلب الخير لقومه مهما كلفه ذلك، ومهما لقي في سبيله، فها هو يدعو قومه ليلًا ونهارًا غير مقتصر على التخويف فحسب، وإنما على الترغيب والتبشير، وقد ابتلاه الله بابنه، إذ أعرض عن توحيد ربه وطاعته، وعصى أباه وعانده، فلما أدركه الغرق دعا نوح ربه في نجاته، فعاتبه الله في هذا الشأن، وهو موقف عصيب أن يرى ابنه يغرق مع جملة الكافرين المعاندين، فيعلم الله نوحًا درسًا له ولذريته ﴿وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ . قَالَ سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ ۚ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ ۚ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾ ثم يقول سبحانه: ﴿وَنَادَىٰ نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ.قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ۖ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ۖ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۖ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾. فالأهلية أهلية العقيدة قبل كل شيء. أما الوشائج وصلات القربى فكلها تتضاءل وتتلاشى إن لم تربطها العقيدة بروابطها المحكمة، وهذا أول ما ينبغي أن يعلمه الناس فضلًا عن الأنبياء ويرجع نوح إلى نفسه معتذرًا إلى ربه ويطلب مغفرته ورحمته حتى لا يكون من الخاسرين، ويكرم الله نوحًا فيستجيب له ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ۖ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ﴾.
وفي قصة موسى عليه السلام في القرآن الكريم نجد العبر والفوائد كثيرة ومتعددة، لأنها تختلف عن قصص كثير من الأنبياء في الزمان والمكان، وتشعب العلاقة مع الناس في مصر وأرض فلسطين، وأول هذه الفوائد أن الظلم ظلمات يوم القيامة، والظَلمة مهما أوتوا من قوة وسطوة فإنهم في النهاية خاسرون حتمًا، فلم يستطع فرعون وقومه تحقيق الهدف المنشود من قتل أبناء المؤمنين واستحياء النساء وإرهاب المؤمنين.
وقد يهيئ الله برحمته وعنايته وسيلة النجاة وطريق الإنقاذ بما لا يحلم به الإنسان، كما هيأ لأم موسى وألهمها إلقاء ابنها في اليم، ثم رده الله إليها وعاد لأحضانها ترضعه بعد إبائه التقام ثدي غيرها، فَتَضمن حياته ونجاته من القتل ويكون هذا الولد المربى في القصر الفرعوني سببًا لهلاك آل فرعون، وما أروع لقاء المحبة مع الإيمان، فقد ألقى الله محبة زوجة فرعون لهذا الطفل، وكانت هذه الزوجة مؤمنة بالله ربًّا، لم تتأثر بهيمنة فرعون وتضليله لقومه، قال الله تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾. ونجى الله سبحانه موسى من القتل حينما قتل قبطيًا فرعونيًا قبل صيرورته نبيًا وخطأ من غير قصد، فأرسل الله إليه ناصحًا ينصحه بالخروج من مصر، وهو رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه وكان ذلك جزاء لصبره ورضاه بأمر الله وتوكله على الله ونصرةً للحق حينما يقل الأنصار.
وهيأ الله الكريم لموسى عليه السلام البيت الذي يؤويه والزوجة الصالحة والعمل الشريف الذي يكسب منه قوام عيشه، فتزوج بابنة شعيب ونزل في ضيافته ورعى له الغنم مهرًا لزواجه بابنته، وكل ذلك من تدبير الإله العلي القدير الكريم، وكانت بعثة موسى نبيًا بدءًا للجهاد والكفاح في ساحتين: ساحة آل فرعون حيث أبوا الإيمان برسالة موسى، فأغرقهم الله في البحر ونجى الله فرعون الذي يدعي الألوهية ليكون عبرة وآية لمن خلفه، وما يزال جسده المحنط موجودًا إلى الآن في متحف الآثار الفرعونية بمصر.
والساحة الثانية لكفاح موسى هي مع قومه بني إسرائيل، فإن الله تعالى نجاهم من ظلم آل فرعون وأنعم عليهم بنعم كثيرة مادية ومعنوية، وسار بهم موسى إلى أرض الميعاد، فعاندوه وعارضوه وعبدوا العجل أثناء غيبته عنهم أربعين يومًا، ولم يمتثلوا أوامر التوراة فكان عقابهم الضياع في متاهات الصحراء في سيناء أربعين سنة، لينقرض جيل التمرد ويحل محله جيل أطوع وأعقل وأبعد عن الإزعاج والفتن والقلاقل وعن الغدر وتقتيل الأنبياء قال تعالى: ﴿لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ ۘ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ. ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ ومع ذلك كان موسى حليمًا على بني إسرائيل رؤوفًا بهم، فإن الله لما هددهم بالإبادة تضرع موسى إلى ربه قائلًا: ﴿رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ ۖ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا ۖ إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاءُ وَتَهْدِي مَن تَشَاءُ ۖ أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۖ وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ﴾.
بارك الله لي ولكم ولسائر المسلمين ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المؤمنين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسائر المسلمين وسلم تسليمًا كثيرًا وبعد:
أقام الله سبحانه الأدلة المتكررة على إعجاز القرآن، فهو المعجزة الباقية والحجة الدائمة التي تحدى الله بها العرب كلهم فعجزوا عن الإتيان بمثله وهم أهل فصاحة وبلاغة، والنبي واحد منهم، وهو أمي لم يقرأ ولم يكتب، فلما آيسوا من معارضة القرآن وعلموا أنه من عند الله تعالى ولزمتهم الحجة، أخذوا يراوغون ويقترحون إنزال آيات مادية حسية بقصد التعجيز والمكايدة، لا بقصد الهداية والإيمان. قال ابن عباس رضي الله عنهما: أرسل أشراف مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهم جلوس عند الكعبة فأتاهم فقالوا: يا محمد إن أرض مكة ضيقة فسير جبالها لننتفع بأرضها وفجّر لنا فيها نهرًا وعيونًا نزرع فيها فقال: «لا أقدر عليه» فقال قائل: أو يكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرًا فقال: «لا أقدر عليه»، فقيل: أو يكون لك بيت من زخرف فيغنيك عنا فقال: «لا أقدر عليه»، فقيل له: أما تستطيع أن تأتي قومك بما يسألونك فقال: «لا أستطيع»، قالوا إن كنت لا تستطيع الخير فاستطع الشر فأسقط السماء كما زعمت علينا كسفًا بالعذاب، فقال عبدالله بن أمية وأمه عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا والذي يُحلف به لا أؤمن بك حتى تشيّد سلمًا فتصعد فيه ونحن ننظر إليك، فتأتي بأربعة من الملائكة يشهدون لك بالرسالة، ثم بعد ذلك لا أدري أنؤمن بك أم لا؟ فأمر الله رسوله بأن يرد عليهم بأن اقتراح الآيات ليس من وظيفة الرسل، وإنما وظيفتهم البلاغ للناس، وأنزل الله تعالى آيات سورة النساء تصف مواقف أشراف مكة من دعوة النبي والقرآن، فقال الله سبحانه: ﴿وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا.أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا.أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِالله وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا.أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا﴾ إذًا فكتاب الله حافل بالقصص، الثمرة فيها أخذ العظة والعبرة بما حل بالأمم السابقة مع أنبيائهم وكيف أن العذاب حل بهم عندما عاندوا وكابروا وطغوا وتجبروا وكان آخرها غزوة بدر، كيف أن الله تعالى أعلى كلمته ونصر جنده وهزم أعدائه.
ألا عباد الله فاتقوا الله وتدبروا كتاب الله وما فيه من العلم والحكمة والهدى والموعظة، اللهم انفعنا بالقرآن واجعله شاهدًا لنا يوم نلقاك، اللهم انصر عبادك وأولياءك، اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل الدين، اللهم عليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم خذهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم انصر عبادك المستضعفين في بلاد المسلمين، اللهم ارحم ضعفنا وقلة حيلتنا.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وأقيموا الصلاة. إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.