بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، أحمده وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
أيها المسلمون اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
عباد الله: إن أعظم ما أصيب به المسلمون اليوم، ما سيطر على كثير منهم من روح الانهزام أمام الأعداء، وضعف عن بعث روح الصبر والثبات الواعي، والعجز عن مجرد التفكير في ذلك، حتى بلغت الأمة الإسلامية في ذلك مبلغًا لا تحسد عليه، استحلت الإخلاد إلى الدعة والراحة والسكون طمعًا في العاجلة، ورغبة في المزيد من الانغماس في الترف، الذي غرقت الأمة في أوحاله إلى أذنيها، وانطبعت به حياتها، وتعودت عليه.
وهذه الروح الانهزامية التي انتشرت في أوساط الأمة الإسلامية؛ أخطر عليها من كل سلاح، بل لقد قامت وحدها مقام كل سلاح، يمكن أن يغزوها به أعداؤها في القديم والحديث، إذ حققت لأولئك الأعداء ما لم يكونوا يستطيعون تحقيقه بالقوة والبطش والجبروت، فحققوا عن طريق ما يسمى بالغزو الثقافي والفكري، الذي أنتج تلك الهزيمة النفسية في مجتمعات المسلمين وأفرادهم على السواء.
عباد الله: وأكتفي بهذا المقام لأتحدث عليكم عن نوع من الغزو والخطر القادم: وهو الغزو الثقافي.
فمما لا شك فيه أن اللغة العربية هي لغة القرآن المجيد، التي نزل بها قال تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ . عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ . بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ﴾، وحفظها القرآن على مدى أربعة عشر قرنًا من الزمان شامخة جميلة، بينما اندثرت لغات كثيرة في العالم، ولكن عباد الله، ما الذي يُراد بلغة القرآن؟ إن أعداء الله يريدون أن يقضوا عليها في واقع المسلمين، وذلك عن طريق مزاحمتها باللغات الأخرى، والاختلاط بمن يتحدث بها، حتى تندثر وتعلوها اللغات الأعجمية، وهذه بعض مقدمات لخطة كبيرة ماكرة، أعدها أعداء اللغة العربية – في دول الغرب – الحاقدون عليها، حيث يدافعون عن لغاتهم باستماتة وبشتى الوسائل، وينفقون بسخاء، بل وبإنشاء مدارس لتعليم اللغات من الطفولة، حتى تضمن تخريج أجيال تابعة لها تعمل كأبناء أوفياء.
عباد الله: وعمَّ هذا الغزو وطمَّ حتى انجرف الكثير مع تيار التقليد الأعمى، بدعوى أن ذلك دليل الرقي والتقدم، فيهجر الأسماء العربية ويختار لوليدته أسماء غير عربية، تيمنًا وتبركًا، حتى أسماء المحلات التجارية في بلادنا تحتاج إلى مترجم، حتى تصل إلى ما تريد، فالأسعار باللغة الإنجليزية، والبائع غير عربي، والأغرب من ذلك: أن الشركات والمؤسسات في بلادنا حينما تعلن عن وظيفة، تشترط الإلمام باللغة الأجنبية تحدثًا وكتابة كالإنجليزية وغيرها، والأطباء العرب يكتبون وصفات الدواء باللغة الإنجليزية، على أن الصيدلي الذي يصرف الدواء عربي أيضًا، فهل هذه مظاهر غربة يعيشها المسلم في وطنه؟ والضحية لغة القرآن الكريم.
قد يقول قائل إن الأمر بسيط، لأنه نظر إلى تلك الجناية نظرة عادية، وإني أقول إن الأمر خطير جدًّا خطير، فما الذي أوصلنا إلى هذا الحد من الهزيمة النفسية، حتى فضّلنا لغة الغرب على لغة القرآن؛ مما أدى بالغرب أن يتعالى بلغته، ويحاول تعميمها في أنحاء المعمورة، وكمثال لهذه اللغة الإنجليزية، فلم تتاجر أمة بلغتها كما فعلت الأمة الإنجليزية، فلا يكاد يُقبِل الصيف بالذات لوجود الإجازات، حتى تنتشر إعلانات دورات اللغة الإنجليزية في الداخل والخارج، ويحقق أولئك من هذا عدة مآرب منها: سيادة اللغة الإنجليزية واكتساحها لجميع اللغات، أو ضمان استمرار وتطور ذلك مستقبلًا، وسيادة اللغة هنا ليست مجرد مفخرة؛ بل هي غزو ثقافي يمهد لأنواع الغزو الأخرى، فقد أدرك الجبناء أن أي غزو ناجح لا بد أن يسبقه غزو ثقافي، وإن الثقافة المعادية والشخصية المستقلة لأي بلد، تمنع منعًا باتًا من استغلاله بأي شكل من الأشكال.
عباد الله: إن اللغة العربية لغة القرآن الكريم، تشكو من احتقار أهلها، وكل لغات العالم تزدهر، ولغتنا تختنق، بل تموت بيننا، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
أيها المسلمون اتقوا الله ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين.
عباد الله: وللهزيمة النفسية مظاهر في شتى المجالات، وأخطرها: مظهر التقليد، ومصدر خطورته كونه إلغاءً للشخصية، وإذابة لمقومات الاستقلالية؛ التي هي لازمة من لوازم التكريم الإلهي للإنسان، فالمقلد يلغي بتقليده لغيره وجوده، أو يقضي على كيانه، ويغمض عينيه ليرى بعيون الآخرين، ويغلق أذنيه ليسمع بآذانهم.
والنبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر عن ذلك حيث قال: «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم» رواه البخاري.
عباد الله: وماذا وراء جحر الضب؟ ماذا بعده تناهيًا في الصغر والضيق والهوان؟ إنه تعبير غاية في الدقة، ومثل غاية في الدلالة.
عباد الله: وقد قلد بعض المهزومين نفسيًا الهازمين في الملبس، ويستوي في ذلك الرجل والمرأة على حد سواء، فالرجل يقلدهم في شكل اللباس، وشدة عنايته بشأنه، وهو ما يسمى في هذا العصر بالأناقة، وقلدت بعض النساء نساء الغرب في اللباس، حذو القذة بالقذة، إن لبست قصيرًا لبست مثله، وإن لبست ضيقًا لبست مثله، وقلدتها في كل شيء حتى في السفور، وانتهاك حرمة الحجاب، مستجيبة في انهزام ظاهر، لدعوة الداعين إلى ذلك، وتضليل المضللين، فجرت على نفسها كثيرًا من التأسي والضياع والمخاطر، التي سبقتها المرأة الغربية الكافرة إلى الأنين من آثارها، والاكتواء بنارها، وذهبت بعض النساء في اندفاع محموم تغير خلق الله، فتزيل ما كان موجودًا، وتضيف ما لم يكن موجودًا، وما ذلك إلا نتيجة للانهزام الداخلي، واستجابة لأصحاب مصانع أدوات التجميل والمساحيق والأصباغ من اليهود.
فاتقوا الله عباد الله واعتزوا بدينكم، تكن لكم الرفعة والسيادة، كما كان لأسلافكم ولينصرن الله من ينصره.
اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه، اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح ولاة أمورنا، وارزقهم البطانة الصالحة يا رب العالمين، اللهم أبرم لهذه الأمة أمرًا رشيدًا يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، إنك سميع الدعاء، اللهم من أراد الإسلام أو المسلمين بسوء، فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، يا رب العالمين، ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وقوموا إلى صلاتكم يغفر الله لنا ولكم.