بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى واعلموا أنكم تحملتم أمرًا عظيمًا، أبت السماوات والأرض والجبال أن تحمله، وأشفقت منه مع عظم قوتها وصلابتها، وذلكم الأمر هو: الأمانة، قال تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾. والأمانة هي كل ما استحفظ عليه الإنسان من حقوق، سواء كانت لله تعالى أو لخلقه، وقد اتفقت أقوال المفسرين على أن المراد بالأمانة في الآية: جميع التكاليف الشرعية، فمن قام بها أثيب ومن تركها عوقب.
وقد ينقسم الناس في الأمانة بتحملها إلى أقسام ثلاثة: قسم التزم بها ظاهرًا وضيّعها باطنًا، وهم المنافقون والمنافقات الذين يظهرون الإيمان خوفًا من أهله ويبطنون الكفر متابعة لأهله، وقسم ضيع هذه الأمانة ظاهرًا وباطنًا، وهم المشركون والمشركات الذين ظاهرهم وباطنهم على الشرك بالله ومخالفة رسله، وقسم حفظ هذه الأمانة ظاهرًا أو باطنًا، وهم المؤمنون والمؤمنات الذين اتصفوا بالإيمان ظاهرًا وباطنًا، فالقسمان الأولان معذبان، والثالث مرحوم، قال تعالى: ﴿لِّيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾.
عباد الله: إن الأمانة أصل في جميع العبادات: في الوضوء وأدائه على وجهه الشرعي، وفي الغسل من الجنابة، وفي أداء الصلاة في أوقاتها وتكميل شروطها وواجباتها، وكذلك في الصيام وفي الحج والزكاة أمانة، والله مطلع عليك في أدائها كاملة أو بخسها.
والأمانة أيضًا أصل في استعمال حواس الإنسان، فالبصر أمانة يجب استعماله فيما أباح الله، وغضه عما حرم الله، والله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، والسمع أمانة، ويجب استعماله فيما أباح الله، وتنزيهه عن سماع ما حرم الله، واللسان أمانة، فيجب استعماله فيما أباح الله واجتناب النطق بما حرم الله، والفؤاد أمانة أيضًا، فيجب استخدامه فيما شرع الله، وسوف يسأل الإنسان عن ذلك كله، قال تعالى: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾، فلينظر كل واحد منا في هذه الحواس، وهل أدى الأمانة فيها، أم أنه خان الأمانة واستعملها في معاصي الله؟
والأمانة أصل في معاملة الناس بعضهم، فالأمين من الناس من ينصح لإخوانه عند البيع والشراء ولا يغشهم في البيع، فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على صبرة من طعام، فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللاً، فقال: «يا صاحب الطعام ما هذا؟»، قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: «أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس»، ثم قال: «من غش فليس مني» رواه مسلم في صحيحه.
ألا فليسمع هذا الحديث وما فيه من الوعيد كل من له علاقة بالبيع والشراء، وليجتنبوا الغش، ليعلم ذلك المزارعون وعموم البائعين، فبعض المزارعين هداهم الله يغشون في البيع عند بيع محصولاتهم، فيجعلون الرديء في الأسفل والطيب أعلى، وإذا نصحت أحدهم قال لك: إني لم أضعه بيدي، وإنما وضعه العمال، فيقال له: إن حجتك داحضة، فالعمال يأتمرون بأمرك، ويطلبون رضاك، أرأيت لو باعوا بأقل من السعر الذي تريد؟ أترضى بذلك؟ أم لو زادوا المقدار الذي حددت لهم عند التعبئة؟ أترضى بذلك؟ إنك بلا شك ستؤنبهم، فاتق الله في أمرك وكن أمينًا في معاملتك، واعلم أن ما قدر لك من الرزق فإنه سيأتيك، ولكن الوسيلة تختلف، فالغش محرم، وإذا كان محرمًا فما يكسبه الإنسان فهو سحت، ولن يدخل الجنة لحم نبت من سحت.
وكذلك من الأمانة والنصح للمسلمين أن لا يبيع الإنسان ما هو محرم، فمن باع المحرم فإنه خائن للأمانة، غاش للمسلمين وكسبه سحت، فمن باع الدخان المحرم فهو غير أمين، ومن باع المجلات الخليعة فهو غير أمين، ومن باع آلات اللهو فهو غير أمين، وهو غاش لمجتمعه وإخوانه المسلمين وكسبه سحت ومن تعاطى الربا أو تحايل عليهم فهو غير أمين.
عباد الله: وتكون الأمانة في المعاملة، بأن تعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به من النصح والبيان، وأن تكون حافظًا لحقوقهم المالية وغير المالية، مما استؤمنت عليه، وتكون الأمانة بين الرجل وامرأته، فيجب على كل واحد منهما أن يحفظ الآخر في ماله وسره، فلا يحدث أحدًا بذلك، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن من شر الناس منزلةً عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه امرأته، ثم ينشر أحدهما سر صاحبه».
ألا فليعلم ذلك أولئك النفر الذين يتندرون في مجالسهم الخاصة بما يجري بينهم وبين زوجاتهم وليعلموا نساءهم أن ذلك لا يجوز.
وتكون الأمانة بين الرجل وصاحبه، يحدث بحديث سر يعلم أنه لا يجب أن يطلع عليه أحد، ثم يفشي سره ويحدث به الناس.
وأولاد الرجل وأهله في عنقه أمانة، ورعاية هذه الأمانة: أن يقوم بتربيتهم وتوجيههم وإرشادهم، ومراقبتهم مراقبة تامة، لاسيما في هذا الوقت الذي كثرت فيه الفتن، والله تعالى يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾.
إن كل رجل لا يرضى أن يكون منعمًا في الجنة وأولاده معذبين في النار، ولو رأى الإنسان النار في الدنيا تحرق ولده أو زوجته، لسعى بكل جهده في دفعها عنه، فكيف يرى ولده أو بنته أو زوجته، يسعى أحدهم في المعاصي التي هي أهم أسباب دخول النار، ثم لا يبالي بذلك، مع أن إهماله يوجب أن يعذب عليه لأنه عاص لله.
كيف يرى الإنسان ولده منغمس في المعاصي، ومع ذلك لا يشفق عليه؟ وكيف يرى ابنته تتبرج وتختلط بالرجال ولا يحرك ساكنًا؟ وهو يعلم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «صنفان من أمتي من أهل النار، قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها»، كيف يسكت على هذا؟ وهو يعلم أنهم رعيته، وهذا غش لهم، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من عبد يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة»، فالأهل والأولاد رعية، والرجل راع فيهم، فمن أهملهم وترك لهم الحبل على الغارب، وجلب لهم وسائل الشر والفساد، وخلى بينهم وبينها، فهو غاش لهم، ويشمله الوعيد المتقدم في الحديث إن لم يتب.
اللهم وفقنا لأداء الأمانة وجنبنا الإضاعة والخيانة. أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الهادي إلى صراطه المستقيم، أحمده وأشكره وأتوب إليه واستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله واعلموا أن الأمانة كما تكون في العبادات والمعاملات، تكون أيضًا في الأعمال التي كلف بها الإنسان، فيجب على من ولي شيئًا من أمور المسلمين، أن يقوم به خير قيام، ويؤديه على الوجه الأكمل، لأنه أمانة في عنقه، سيسأل عنها يوم القيامة، فيجب عليه حفظ الوقت واستغراقه في العمل الذي كلف به، فيجب عليه ألا يهدر دقيقة واحدة في العمل الذي طلب منه، لأنه يتقاضى مقابلها مبلغًا من المال، فلا يحل أخذه بدون عمل، هذا وإن بعض الناس يتهاون في بداية العمل ونهايته، فنجد أن بعضهم لا يحضر إلا بعد بدء العمل بساعة، وربما خرج قبل نهايته بساعة أو أكثر، وقد يكون ذلك بعلم المسؤول عنه، حتى صارت عادةً عنده، فهذا أمرٌ لا يجوز؛ لأنه يتقاضى مقابل تلك الساعات التي يخرج فيها مبلغًا من المال، ولو قيل بأنه سيحسم عليك أجر تلك الساعات لما خرج وهذا من تضييع الأمانة.
وكذلك يجب على الموظف أن يعدل بين الناس، وأن يعطي كل ذي حق حقه، لا يهاب الأقوياء ولا يحتقر الضعفاء، وكذلك يجب ألا يكون للمعرفة أو الوساطة تأثير في تقديم شخص على آخر، فبعض الموظفين هداهم الله قد وجد عنده هذا الجانب.
عباد الله: إن الأمانة ترفع في آخر الزمان، فعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر، «حَدَّثَنَا أَنَّ الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ . وَحَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِهَا قَالَ: يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الْأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ ، فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْوَكْتِ ، ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ فَيَبْقَى أَثَرُهَا مِثْلَ الْمَجْلِ ، كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ فَنَفِطَ فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ ، فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ فَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ ، فَيُقَالُ: إِنَّ فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلًا أَمِينًا ، وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ: مَا أَعْقَلَهُ وَمَا أَظْرَفَهُ وَمَا أَجْلَدَهُ ، وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ». رواه الشيخان.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصيبات الدنيا، ومتِّعْنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا.
اللهم يا سميع الدعوات، يا مقيل العثرات، يا قاضي الحاجات، يا كاشف الكربات، يا رفيع الدرجات، ويا غافر الزلات، اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.
اللهم إنا نسألك لولاة أمورنا الصلاح والسداد، اللهم كن لهم عونًا وخذ بأيديهم إلى الحق والصواب والسداد والرشاد، ووفقهم للعمل لما فيه رضاك وما فيه صالح العباد والبلاد.
﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾
سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.