بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، وبعد:
إخوة الإسلام: في هذه الأيام تتوق نفوس المؤمنين إلى زيارة بلد الحرام، وتتطلع الأفئدة لأداء مناسك الحج، إحدى فرائض الإسلام، وهناك من يقدر له ذلك، ويشاء الله أن يبلغه إتمام المناسك وقضاء النسك، وهناك آخرون تقعد بهم الحاجة، أو تنعدم لهم الوسيلة، أو يشغلهم ما هم فيه، من فتن ومحن عن مجرد التفكير في الحج، فضلًا عن الاستعداد له أو بلوغه، وعلى الذين يعيشون حالة الأمن والرخاء، أن يشكروا الله على هذه النعمة، وأن يستثمروا أعمارهم وصحتهم في المسارعة للخيرات، وعدم التسويف في عمل الصالحات، وعليهم أن يشاركوا إخوانهم محنتهم بالدعاء، وفي مواطن الحج ومواقفه فرصة للدعاء، وهي حرية بالإجابة والقبول، فلا تحرموا أنفسكم وإخوانكم المسلمين من الدعاء، فهو سلاح نافذ وهو طريق لتفريج الكربات بإذن الله.
أيها المسلمون: لقد أنزل الله فيما أنزل في كتابه الكريم على رسوله الأمين قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾، قال أهل التفسير: هذه آية وجوب الحج عند الجمهور وقيل: بل هي قوله تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ والقول الأول أظهر.
وقد وردت الأحاديث المتعددة بأنه أحد أركان الإسلام ودعائمه وقواعده، وأجمع المسلمون على ذلك إجماعًا ضروريًا، وإنما يجب على المكلف في العمر مرة واحدة بالنص والإجماع.
وقد روى الإمام أحمد في مسنده، والإمام مسلم في صحيحه بسندهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا»، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم»، ثم قال: «ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، وإذا أمرتكم بشيءٍ فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيءٍ فدعوه».
وقد اختلفت عبارات السلف في المقصود بمعنى قوله تعالى: ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ ويجمعها: الزاد والراحلة والصحة، ويؤكدها قول الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد سئل: من الحاج يا رسول الله؟ قال: «الشعث التفل»، فقام آخر فقال: أي الحج أفضل يا رسول الله؟ قال: «العج والثج»، فقام آخر (وهنا موضع الشاهد) فقال: ما السبيل يا رسول الله؟ قال: «الزاد والراحلة».
والمقصود بالشعث التفل: الذي لم يحلق رأسه، وقد اغبر من عدم الغسل، وتفرق من عدم المشط، أي تارك الزينة، والتفل: الذي ترك استعمال الطيب. أما العج فالمقصود به: رفع الصوت بالتلبية، والثج: سيلان دم الهدي والأضاحي.
إخوة الإسلام ويا من قدرتم على الحج وتيسرت لكم سبله ولم تحجوا بعد: الله الله بالمبادرة في تأدية فرض الله، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو يحثكم على الاستعجال في ذلك ويقول: «تعجلوا إلى الحج – يعني الفريضة – فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له».
وفي الحديث الآخر يؤكد صلى الله عليه وسلم على الاستعجال في أداء الفريضة ويبين العوارض التي قد تصد الإنسان، فيقول صلى الله عليه وسلم: «ومن أراد الحج فليتعجل، فإنه قد يمرض المريض وتضل الضالة وتعرض الحاجة».
واحذر أخي المسلم من التفريط في أداء الواجبات بشكل عام، وتأمل عقوبة من أطاق الحج، فلم يحج بشكل خاص، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (من أطاق الحج فلم يحج فسواء عليه يهوديًا مات أو نصرانيًا)، قال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح إلى عمر، وروى سعيد بن منصور في سننه عن الحسن البصري قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لقد هممت أن أبعث رجالًا إلى هذه الأمصار فينظروا كل من كان له جدة – أي مالًا وقادرًا على الحج – فلم يحج فيضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين).
أيها المسلمون: وفضلًا عن كون الحج أحد أركان الإسلام التي لا قيام له بدونه، وقد قال الله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ قال ابن عباس وغيره رضي الله عنهم في تأويلها: (أي ومن جحد فريضة الحج فقد كفر والله غني عنه) فضلاً عن وجوبه وعظم جريرة من جحده وأنكره، فإن للحج سواء كان فريضةً أو نفلًا منافع جمة وفضائل كثيرة، جمعها الله تعالى في قوله: ﴿لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ﴾ وجاء بيانها في سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فمن منافع الحج وثماره أنه وسيلة لمغفرة الذنوب، وهل يوجد شخص خلا من الذنوب والمعاصي، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه»، ويروى عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: «حجة مبرورة تكفر خطايا سنة».
وقد ثبت أن الحج يهدم ما قبله من الذنوب، كما ورد في قصة إسلام عمرو بن العاص رضي الله عنه، وقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ابسط يمينك لأبايعك، فبسط رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فقبضها عمرو، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «مالك يا عمرو؟»، قال: أردت أن أشترط قال: «تشترط على ماذا؟»، قال: أن يُغفر لي، قال: «أما علمت يا عمرو أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله». ويا له من فضل عظيم لمن وفقه الله.
ومن منافع الحج: أن المتابعة فيه والاستمرار على العمرة معه، سببان مانعان بإذن الله دون الفقر والذنوب، يقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: «تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة».
والحج المبرور طريق إلى الجنة؛ وهي مبتغى كل مسلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «الحج المبرور ليس له جزاءً إلا الجنة»، وفي الحديث الآخر: «وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة»، والحجاج والعمار وفد الله، دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم، وفي لفظ: الحجاج والعمار وفد الله، إن دعوه أجابهم، وإن استغفروه غفر لهم.
ومن منافع الحج أنه جهادٌ لكل ضعيف، وفي الحديث الصحيح يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «الحج جهاد كل ضعيف»، هذا فضلًا عن كونه يعفي النساء عن الجهاد، ففي الحديث المتفق على صحته تقول عائشة رضي الله عنهما، استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد فقال: «جهادكن الحج».
والحج معاشر المسلمين: وسيلة بر للأرحام والأقربين، فمن حج عن أبيه أو عن أمه أو عن أحد أقاربه؛ فهو من البر الذي تصدق لهم، ولكن لا بد أن يكون قد أدى الفريضة عن نفسه، ففي الحديث الصحيح عن أبي رزين العقيلي أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظَّعْن قال: «حج عن أبيك واعتمر»، ويا لها من فرصة يبر فيها الأحياء للأموات، أو لمن لا يستطيعون الحج، وإن كانوا أحياءً، وخاصةً إذا كانت فريضة الإسلام، فانفعوا أنفسكم معاشر المسلمين، وبروا غيركم واستبقوا الخيرات، وبادروا بالطاعات، واعلموا أن ما تقدموا لأنفسكم من خيرٍ تجدوه عند الله، هو خيرًا وأعظم أجرًا، واستغفروا الله إن الله غفور رحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله مستحق الحمد والثناء، وأشكره تعالى على نعمه، وأستغفره من جميع الذنوب، وأتوب إليه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، وبعد:
إخوة الإسلام: لا تقف منافع الحج وآثاره عند هذا الحد، إذ إن الحج معبر وسبب لكثير من العبادات، ففيه ذكر الله دائمًا وأبدًا: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ۖ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ﴾، ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ﴾، وفيه الاستغفار: ﴿ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله﴾.
وفيه يلهج الحجيج بالتهليل والتكبير، كلما طافوا أو سعوا، وكلما رموا الجمار أو ذبحوا، بل وكلما أقاموا في مكان، أو ارتحلوا أو هبطوا ثنية أو صعدوا، ويكفي الحجيج أن يتلبسوا بالتوحيد، ويجعلوه شعارهم وألسنتهم تردد لبيك اللهم لبيك. لبيك لا شريك لك لبيك. إن الحمد والنعمة لله والملك، لا شريك لك. ويا لها من كلمات عظمى، لو عقلها والتزمها المسلمون في حلهم وإحرامهم، وفي كل لحظة من لحظات حياتهم، والحج فرصة لنحر الهدي والتقرب إلى الله بسفك الدماء، قال الله تعالى: ﴿وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ قال مجاهد رحمه الله: (يريد استعظام البدن واستحسانها).
والحج فرصة كذلك لإطعام الطعام، وإفشاء السلام وطيب الكلام، وقد جاء في الحديث: «الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة»، قيل: وما برّه؟ قال: «إطعام الطعام وطيب الكلام».
فأنت مدعو أخي الحاج لإطعام الطعام، وإفشاء السلام على من عرفت ومن لم تعرف، والكلمة الطيبة تشيع المحبة بين المسلمين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة للخير، كل ذلك من سمات المسلمين في كل زمانٍ ومكانٍ، ولاسيما في هذه الأزمان والأماكن الفاضلة، وحيث يجتمع المسلمون من كل حدبٍ وصوبٍ.
وأنت مدعو أيها الحاج لحفظ لسانك، وسمعك وبصرك، وجميع جوارحك عن الحرام، في كل منزلٍ من منازل الحج، ولاسيما في المواطن التي ينبغي الاشتغال فيها بذكر الله كيوم عرفة، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان فلان ردف النبي صلى الله عليه وسلم (وفي رواية كان الفضل بن عباس) يوم عرفة، فجعل الفتى يلاحظ النساء وينظر إليهن، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أي أخي إن هذا يوم من ملك فيه سمعه وبصره ولسانه غفر له».
فهل يقدِّر المسلمون عامة، والحجاج خاصة، هذا اليوم حق قدره، فيشتغلوا بذكر الله ودعائه، أم تراهم يجتمعون للأحاديث العابرة والحكايات النادرة التي تستجيب لها النفوس، وكأنه يومًا كسائر الأيام.
والحج وسيلة للكسب الحلال لمن هو محتاج إلى ذلك، قال الله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ﴾ روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت عكاظ ومجنةُ وذو المجاز أسواق الجاهلية، فتأثموا أن يتجروا في الموسم فنزلت هذه الآية.
وبالجملة فالحج معدود في فضائل الأعمال، بعد الإيمان والجهاد، ففي الحديث المتفق على صحته، سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضل؟ قال: «إيمان بالله ورسوله»، قيل: ثم ماذا؟ قال: «الجهاد في سبيل الله»، قيل: ثم ماذا؟ قال: «حجٌ مبرورٌ».
فيا حجاج بيت الله الحرام: أوصيكم ونفسي بتقوى الله، ومراقبته فيما تعملون أو تدعون، وأنصحكم ونفسي بالإخلاص لله في العمل، والمتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم، وهو القائل: «خذوا عني مناسككم»، وليس يسوغ لك أخي الحاج أن تذهب إلى المشاعر وأنت لا تدري ما تصنع، وترى أنه يكفيك أن تذهب مع الناس حيث ذهبوا، وتتحرك معهم حيث تحركوا، بل عليك أن تعرف أحكام الحج وأركانه وواجباته وسننه، فإن كنت قارئًا فاقرأ مناسك الحج لأصحاب الفضيلة، وإن كنت لا تستطيع القراءة فاستمع إلى هذه الأحكام مسجلة على أشرطة الكاسيت، وهي منتشرة والحمد لله، وإن لم يتيسر لك هذا ولا ذاك، فاسأل عن هذه الأحكام الهامة، وصفة الحج والعمرة، فليس يسوغ لك الجهل في هذا الزمان، ولا تعذر بالتقصير بكل حال، حتى عند المشاعر، ويتوفر علماء ودعاة، يستقبلون السائلين ويوجهون الغرباء، واحرص على الرفقة الصالحة، فهم خير معين لك على معرفة ما تجهل أو تذكيرك حين تغفل.
أيها المسلمون من غير الحجاج: أمامكم فرصة هذه الأيام لا تعوض، ألا وهي عشر ذي الحجة، التي قال النبي صلى الله عليه وسلم بشأنها «ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله عز وجل من هذه الأيام»، يعني أيام العشر، قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله، قال: «ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء».
فاجتهدوا بكل طاعةٍ من صيامٍ وصدقةٍ وذكرٍ وصلاةٍ ونحوها، واعلموا أن على من أراد الأضحية منكم ألا يأخذ من شعره ولا ظفره شيء حتى يضحي.
اللهم يسر للناس حجهم واقبله منهم، اللهم وفقنا لما تحب وترضى، وخذ بناصيتنا للبر والتقوى، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وانصر عبادك الموحدين، اللهم انصر إخواننا في فلسطين وغيرها من بلاد المسلمين، اللهم من أرادنا أو أراد أي بلد إسلامي بسوء، فاجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميرًا عليه.
اللهم كما تجمع عبادك حجاج بيتك الحرام لأداء نسكك، فاجمع كلمتهم على الحق يارب العالمين، واجعلهم ينافحون عن دينك، وعن بلادهم وأعراضهم، اللهم وفق ولاتنا وولاة أمور المسلمين، لتحكيم كتابك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وأصحابه، وارض عن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.