بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى
الحمد لله خالق العباد، والشكر له سبحانه على نعمة الهَدْي والرشاد، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، القائل في كتابه المبين: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى﴾، وأشهد أن نبينا محمدًا رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فيا عباد الله: أوصيكم بتقوى الله في كل حال، وأحثّكم على طاعته في الأقوال والأفعال، وأعظكم بقوله الحق حيث قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾.
أيها الإخوة المؤمنون: ما أكثر أسباب الضياع النفسي في هذه الأيام، وما أكثر الضائعين نفسيًا في خِضَمِّ هذه الحياة وما أفدح النتائج وأسوأ العواقب التي ينتهي إليها هؤلاء الضائعون وتُنهى بها مجتمعاتهم وأُمَمهم، إنها والله لمأساة الإنسان في هذا العصر المتطور الذي يتعاظم فيه البنيان المادي ويتضاءل فيه الجانب الروحي.
وفي خطبتنا اليوم سوف نلقي الضوء على بعض وسائل الضياع النفسي التي أخذت تعصف بالإنسان وتلقيه جثةً هامدة على هامش الحياة بعد أن تستأصله فكريًا وسلوكيًا وروحيًا ونفسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا. وحسبنا أن نذكر هنا من تلك الوسائل المدمرة أعتاها وأشدها فتكًا وتدميرًا ألا وهي المخدرات والمسكرات.
ولا ريب أيها الإخوة المؤمنون في أن الحديث عن هذه السموم الخطيرة حديث عن واقع مرير يمرُّ به إنسان هذا العصر في نفسه ومجتمعه حيث يقع قطاع كبير منه فريسة هذه السموم الفتاكة التي أوشكت أن تنتشر في صفوف الكبار والصغار انتشار النار في الهشيم في شتى بلاد العالم حتى بلاد العرب المسلمين لم تعد بمأمن من أخطارها الفادحة، إذ يقع كثير من شباب هذه الأمة وفتياتها في شباكها المدمرة، ولقد اتسع نطاق الحديث عن المخدرات والمسكرات والتخدير من أخطارها وتأثيراتها السلبية على الإنسان في عقله وفي نفسه وفي جسمه وفي مجتمعه وفي سلوكه وأخلاقه؛ بل وعلى حياته كلِّها وجودًا وعدمًا، فجاء في تقرير المؤسسات والجمعيات العلمية والصحية العالمية أن للمخدرات والمسكرات تأثيرًا خطيرًا في تدمير الطاقة الجسمية والعقلية في الإنسان فهي تضرب مراكز المخ العصبية وتصيب العقل بالضعف وفقد القدرة على التفكير والتركيز وتخرب الجملة العصبية وتؤدي إلى الهلوسة والجنون والانحطاط البدني وتقلل من مناعة الجسم ضد الفيروسات والفطريات إلى جانب تخريبها لعدد من الأجهزة في الجسم البشري، وأما عن الآثار النفسية فحسبنا أن نعلم أن تعاطي تلك السموم يؤدي إلى التوتر والاكتئاب واضطراب المزاج والارتكاسات النفسية المستمرة وارتفاع نسبة الأمراض العصبية الخطيرة التي تفضي غالبًا بأصحابها إلى الانتحار.
وأما عن الآثار الاجتماعية فإنها تؤدي إلى اضطراب الوضع الاجتماعي للمدمن وتفكك أسرته وضياع أطفاله وكثرة الانحرافات السلوكية والأمراض النفسية فيما بينهم.
وأما عن الآثار الاقتصادية فحسبنا أن نعلم أن مدمن المخدرات ينفق نسبة كبيرة من دخله على تحصيلها، فينعطف ذلك بالسوء على أفراد أسرته في المسكن والمأكل والنواحي الصحية والتعليمية وسائر أمور العيش.
وأما عن الآثار السلبية التي تخلقها المخدرات في السلوك والأخلاق فيكفيك أن تعلم أنها غالبًا ما تسوق مدمنيها إلى ارتكاب أبشع الجرائم الخلقية من نصب واحتيال وسرقة وخيانة وتزوير؛ بل كثيرًا ما تكون سببًا قويًّا إلى ارتكاب جرائم القتل وافتراس الأبرياء من الناس إلى جانب كونها دافعًا قويًّا إلى ممارسة الرذيلة والفجور وانتهاك الأعراض والانغماس الصارخ في مستنقعات الشهوات والفسق، وما أكثر ما نسمع عن الضياع والدمار الخُلقي الذي ينتاب مجتمعات الشباب والفتيات المتهالكين على المخدرات والمسكرات في كثير من بلاد العالم، فنقرأ عن آلاف المراهقين والمراهقات الذين يقضون لياليهم في أقبية المخدرات في بلاد الغرب، ونقرأ عن الجرائم والمخازي التي يرتكبونها وعن المصائر والنهايات التعيسة الخاسرة التي ينتهون إليها، الأمر الذي دفع معظم دول العالم إل إصدار القوانين لمحاربة تلك السموم الفتاكة وملاحقة تجارها فارضة في حقهم أقصى العقوبات.
أيها الإخوة: لقد وقف الإسلام من ترويج المخدرات وممارسة تعاطيها موقفًا صارمًا حيث حذر من تناولها وتوعد عليه بشديد العقاب؛ لأنها من الخبائث، بل هي من أشدها فتكًا بالعقول والأجسام، ولكم أن تقرؤوا أيها الإخوة في كتاب الله ما يحذِّر من تعاطي تلك السموم القاتلة وكلّ ما يؤدي إلى تخريب الجسم البشري وتدمير الطاقة الإنسانية، من ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ والمخدرات من أقبح المهلكات، وقوله: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ وفي تعاطي المخدرات قتل للجسم والعقل والكيان الإنساني كلِّه وقوله:﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾ والمخدرات من أشد الخبائث ضررًا وأعتاها خطرًا. وكذلك في السنة الشريفة لكم أن تقرؤوا إن شئتم قوله عليه الصلاة والسلام: «لا ضرر ولا ضرار»، والمخدرات عين الضرر الذي ينبغي الحذر منه، وقوله: «من قتل نفسه بسمٍّ عُذِّب في نار جهنم». وهل يفكر أحد أن المخدرات سموم فتاكة بالعقول والجسم؟
أيها الإخوة: يجب أن تعلموا أن من أهم الأسباب الداعية إلى انتشار هذه السموم في كثير من الناس هو الخواء الروحي والارتكاس الصارخ في حمأة المادة ومستنقعات الشهوات ولا سبيل إلى إنقاذ الغارقين في جحيمها إلا بانتشالهم من أوحال الشر ومنزلقات العصيان، والارتقاء بأرواحهم إلى أجواء الهداية والإيمان وطهر الحياة الإنسانية الراشدة في ظل مراقبة الله سبحانه.
فتداركوا يا معاشر الآباء وأولياء الأمور شباب أمتنا المسلمة وفتياتها، اغرسوا في أعماقهم الخشية من الله وازرعوا في قلوبهم الثقة بالله، وأدبوهم بأدب الإسلام، وربوهم تربية القرآن، وحضوهم بالموعظة الرشيدة والتذكرة البليغة، حتى يسلموا من المخدرات وغيرها من وسائل الفساد.
اللهم احفظ أجيال أمتنا الإسلامية من غائلة الفساد وشرك المخدرات إنك على ما تشاء قدير وبالإجابة جدير.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين الحكيم العليم الذي هدانا لدينه وأرشدنا إلى شرعته، وأحل لنا الطيبات من الرزق بحكمته وحرم علينا الخبائث برحمته، فقال عز من قائل ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ﴾، والصلاة والسلام على الرسول المبعوث رحمة للعالمين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا، وبعد:
لنا أن نتساءل مع أنفسنا وراء تفشي هذه الآفة بين صفوف المجتمع وبخاصة ما نراه بين الشباب والفتيات، هل وراء ذلك أسباب فردية أو اجتماعية أو اقتصادية أو غير ذلك.
إذا نظرنا بعين الواقع نجد أن من أسباب تفشي هذه الآفة التفكك الأسري وضياع الأولاد، كغياب الأب عن قيادة زمام الأسرة وانشغاله بمصالحه أو سهراته أو سفراته أو طلاق الزوجة وكون الأولاد عالة عليها، أو أمية الأبوين وعدم معرفتها بتربية الأولاد، ومن ذلك حدوث المشاكل الأسرية أمام ناظري الأولاد، مما ينجم عنه لجوء الأولاد إلى الشارع أو قرناء السوء، وهكذا ولا شك أن تأثير الأسرة والتربية في الأفراد له أثر كبير في شخصية هؤلاء الأفراد وفي قبولهم أو رفضهم لأي سلوك؛ لأن الأسرة تسهم بدور هام في تربية أبنائها وفي سلامتهم الجسمية والعقلية وتوافقهم النفسي والاجتماعي، وبناء شخصية قوية تقاوم الفساد الذي يحيط بالأفراد سواء عن طريق الأصدقاء أو الفضائيات أو الإعلام غير الموجه.
وهناك أسباب اجتماعية تحيط بالفرد خارج البيت وفي المدرسة والمؤسسة والمصانع، والشارع تؤثر تأثيرًا كبيرًا في سلوك الفرد وفي استجابته أو عدم استجابته للمؤثرات المحيطة به سواء من الأصدقاء والزملاء أو من عامة الناس.
وهناك أسباب اقتصادية تؤثر تأثيرًا كبيرًا في تعاطي المخدرات وانتشارها كالرخاء المفاجئ يؤدي إلى وفرة المال الذي قد يؤدي إلى الإقبال على المخدرات، أيضًا ما ينشأ عنه من استقدام العمالة الوافدة التي تأتي إلى البلاد محملة بخيراتها وسيئاتها، وكذلك الكساد المفاجئ يؤدي إلى التفكك الأسري والبطالة بما تعنيه من الإحباط والفشل وخصوصًا بين الشباب الذين يواجهون الصعوبات في إيجاد العمل المناسب.
عباد الله: إن استفحال هذه الآفة وانتشارها تؤدي في النهاية إلى القضاء على ثروات البلاد عن طريق ما تنفقه الدولة لمكافحة هذه السموم ومنع دخولها ووصولها إلى أيدي المدمنين، وكذلك الخدمات الطبية والمعالجات النفسية والاجتماعية التي تقدم لعلاج المدمنين.
الإنفاق المستتر وهو نوعان:
أحدهما: ما ينفقه المدمنون ثمنًا للمواد المخدرة ويدخل في ذلك ما يترتب على الإدمان من اختلال ارتباطهم بمواقيت العمل وكثرة الغياب بسبب اعتلال الصحة.
ثانيهما: الخسائر البشرية التي يتكبدها المجتمع كجزء من المعاناة مع مشكلة المخدرات.
لذا فإن الإسلام أوجد حلولًا جذرية وقائية للحد من استفحال هذه الآفة وحلولًا عقابية لمن تسول له نفسه الترويج للمخدرات وجعل ذلك من الفساد في الأرض، قال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾.
اللهم احفظنا واحفظ شبابنا وفتياتنا من الوقوع في المخدرات والمسكرات، وطهر قلوبنا من كل ما يغضب وجهك الكريم، اللهم احم حوزة الدين وانصر عبادك الموحدين وأهلك الكفرة والملحدين، اللهم من أرادنا أو أراد أي بلد إسلامي بسوء فاجعل كيده في نحره واجعل تدبيره تدميرًا عليه، اللهم اغفر لنا وارحمنا وعافنا واعف عنا وأكرم نزلنا ووسع مدخلنا وتجاوز عنا، إنك سميع مجيب. اللهم وفق ولاتنا وولاة أمور المسلمين لكل ما فيه صلاح العباد والبلاد. اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وأزواجه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين، وقوموا إلى صلاتكم يغفر الله لنا ولكم.