بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين القائل: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾ وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، وبعد:
تطمع كل أمة من الأمم أن تنال قصب السبق بين الأمم في جميع شؤون الحياة، تتسابق تلك الأمم على اختلاف نحلها ومللها وتحرص على صعود سلّم الرقي وتبذل وسعها في أن تتبوأ مكان الصدارة، تسابق كل أمة زمنها وتواكب كل المستجدات الحضارية، لا يفتر أهلها طرفة عين عمّا يضمن لهم المنافسة على الصدارة في جميع شؤون الحياة، وتهيئ لذلك الموارد البشرية والمالية، لا تدخر وسعًا ولا تألو جهدًا في ذلك.
إلا أن ذلك التسابق والتنافس بين تلك الأمم لا يعدو أن يكون متعلقًا بصورة الحياة الظاهرة من نظم وتخطيط وما يتبع ذلك من كماليات الحياة وزخرفها.
بل وقد تجنح بعض الأمم شططًا فتنحدر إلى مزالق بعيدة تربأ عنها الحياة البهيمية فضلًا عن الآدمية. إنه مع ذلك التنافس والتسابق بين أمم الأرض تبقى الأمة المصطفاة من بين سائر الأمم أكثر حظًا وأوفر زادًا.
تبقى أمة الإسلام شامخة برأسها بين الأمم، لما حباها الله تعالى من الخصائص والصفات، تلك الخصائص التي لا تعرض فتشترى ولا توهب فتقتنى، تلك الخصائص من العطايا الربانية والمنح الإلهية التي تفضل الله بها على أمة الإسلام فجعلها خير الأمم وأزكاها على الإطلاق.
سبقت جميع الأمم إلى غاية سامية ومنزلة عالية لم ولن تحصل عليها أي أمة سواها.
تلك الغاية هي تهذيب حياة القلوب والعقول قبل حياة الأبدان، فقد حررت القلوب والعقول من الرق والاستبداد الفكري والعقدي، لقيادة الناس إلى شاطئ الأمان والاستقرار، نفضت عن أهلها غبار النوم إلى يقظة هائلة تمكن أصحابها من اتباع الأمم لهم بعد أن كانوا تابعين لتلك الأمم، فترأس أهلها بعد أن كانوا مرؤوسين.
وبنظرة إلى الوراء ورؤية حال أفراد أمة العرب قبل مجيء الإسلام إليهم يرى الناظر ضخامة ذلك التغيير الجذري الذي حدث لأفرادها فأوجد لهم نقلة كبرى، فكيف كان حال أولئك قبل الإسلام؟
شهد التاريخ بذلك فقال: كانت حياة الناس في الجاهلية حياة بؤس وشقاء، كان الشرك قد ضرب أطنابه وربض بظلمه وظلامه، فاتخذت كل قبيلة لها صنمًا تعبده وترجوه وتخشاه، لا يعقد أحدهم أمرًا حتى يستقيم عن صنمه ولا يعود من سفر إلا ويبدأ بالتمسح به فيطوف به ويلتزمه، كانت العصبية القبلية ميزان التفاضل بينهم، كان الربا متفشيًا بينهم فبيعهم وشراؤهم قد لبس ثوب الربا من مشاش رأسه إلى أخمص قدميه، كانت الخمر فاكهة نواديهم شربًا وشعرًا وتفاخرًا، كان وأد البنات من مفاخرهم، كان القمار من مناقبهم؛ بل كان عدم المشاركة في مجالسه يعد من العار والشنار، كان الرجل يخسر ماله في لحظات يسيرة، قال قتادة رحمه الله: “كان الرجل في الجاهلية يقامر على أهله وماله فيقعد حزينًا سليبًا ينظر إلى ماله في يد غيره، فكانت تورث بينهم عداوة وبغضًا”.
وأما الحروب فكان تثور بينهم لأتفه الأسباب وأرذلها.
أيها الإخوة: على هذا الحال وأسوأ منها كانت طبيعة حياة أهل الجاهلية ومازالوا يتخبطون في ظلمات الجهل بأنواعه، حتى بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم فأخرجهم الله به من الظلمات إلى النور، وحرر الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، فأعزهم الله بعد أن كانوا أذلة وسودهم بعد أن كانوا مَسُودين، وهكذا بدأت أمة الإسلام في رقيها حتى تبوأت مكان الصدارة بين الأمم في عصر الرسالة والخلافة الراشدة وما بعدها، فحازت قصب السبق في جميع شؤون الحياة ومصالحها بدءًا بصلاح القلوب وإصلاحها وتهذيب النفوس بمكارم الأخلاق وحسنها إلى مصالح الناس الدنيوية حتى أصبحت أمة الإسلام مقصدًا لتقدمها، فدار الخلافة في دمشق كانت موئلًا لمختلف العلوم والمعارف، وبلغ هذا الأمر ذروته في عاصمة الخلافة العباسية بغداد، وقل مثل ذلك أو زد عليه في عصور الأندلس الذهبية عندما كان المسلمون قد بهروا المجتمعات الأخرى بالتقدم العلمي والحضاري وأصبحت قرطبة محطًا لركائب الراغبين في تحصيل العلوم النظرية والتطبيقية، وكانت المجتمعات الأخرى تغط في سبات عميق من الجهل والظلام، وقد لبست ثياب الفوضى والاضطراب الفكري والأخلاقي، يؤكد هذا أدلة كثيرة منها:
ترجمة كثير من مؤلفات المسلمين العلمية إلى لغات الأمم الأخرى، واعتراف المنصفين من علماء المجتمعات الأخرى بفضل الحضارة الإسلامية على مجتمعاتهم في شتى المجالات، قال أحد أولئك: “كل الشواهد تؤكد أن العلم الغربي مدين بوجوده إلى الثقافة العربية الإسلامية، كما أن المنهج العلمي الحديث القائم على البحث والملاحظة والتجربة الذي أخذ به علماء أوروبا إنما كان نتاج اتصال العلماء الأوربيين بالعالم الإسلامي عن طريق دولة الإسلام في الأندلس”.
وبكل حال فقد دون التاريخ وشهدت صفحاته بعظمة التقدم العلمي للمسلمين وكيف أمسكوا بزمام الأمور في تلك العصور، وكيف كانت الأمم الأخرى تقف موقف المتفرج المنبهر والسائل الذليل أمام عظمة حضارة المسلمين.
فنسألك اللهم أن تعيد للمسلمين مجدهم ومكانتهم وأن تكبت عدوهم، اللهم ارزقنا الاستقامة على الرشد وجنبنا فتن الشبهات والشهوات إنك سميع مجيب.
الخطبة الثانية
الحمد لله الهادي إلى سواء الصراط، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد:
ليست خيرية الأمة مقصورة على زمان معين، أو مكان معين، بل جعل الله عزة الأمة وشرفها مرهونًا بوجود خصائص وصفات ارتضاها لها ووعد بالعز والتمكين لمن تمسك بها، فمتى ما حرص أفراد المجتمع على تحقيقها، كان عزهم وشرفهم بحسب ما عندهم من تلك الخصائص والصفات.
عباد الله: وإن من تلك الصفات التي علق الله خيرية الأمة على وجودها، شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تلك الشعيرة التي جاءت بها النصوص الكثيرة المتواترة، تلك الشعيرة التي ترتفع بها الأمة أو توضع، فقد حكم الله بخيرية الأمة إن كانت تلك الشعيرة من خصالها واتصف بها أفرادها ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾ وفي المقابل أذلَّ الله أمة من الأمم تركت تلك الشعيرة وأهملت شأنها فكان عاقبة أمرها خسرًا ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ .كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾.
أيها المسلمون: إن اتصاف أفراد المجتمع بتلك الشعيرة كل بقدر طاقته، فيه ضمان لتحقيق المصالح وزوال المفاسد، فيه استمرار لتقدم الأمة ورقيها.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الذي أنزل الله به كتبه وأرسل به رسله”، وقال الإمام النووي رحمه الله: “واعلم أن باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باب عظيم به قوام الأمر كله، وإذا كَثُر الخبث عمَّ العقاب الصالح والطالح، وإذا لم يأخذوا على يد الظالم أوشك أن يعمهم الله تعالى بعقابه ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾” أ.هـ كلامه رحمه الله.
ومن باب الإنصاف وإحقاق الحق، نحمد الله تعالى أننا نلمس قيام هذه الشعيرة في هذه البلاد، ففيها تحكيم شرع الله تعالى وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، فمراكز الهيئة تتشرف في كل منطقة ومحافظة، ومن هنا نعلم أن إحياء شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له ثمار كثيرة ومنافع عظيمة، من ذلك التمكين في الأرض ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ ومن ذلك أنه علامة واضحة على فلاح الأمة:﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، ومن ذلك أيضًا أنه علامة على صلاح القائمين بها ﴿يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾.
ألا عباد الله فلنشد من أزر أهل الحسبة، ولنتعاون معهم على كل ما فيه الصلاح والخير للعباد والبلاد.
نسأل الله تعالى أن يحفظ بلادنا من شر الأشرار وكيد الفجار، اللهم وفق المحتسبين لأداء عملهم على الوجه الذي يرضيك عنهم، اللهم قوِّ شوكتهم وزد هيبتهم، اللهم ارزقنا الإخلاص في أعمالنا والتوفيق في حياتنا.
اللهم ارزقنا الغَيْرة على محارمك واجعلنا من الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر، اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين، اللهم وفق ولاة أمورنا وأمور المسلمين لما فيه صلاح الإسلام والمسلمين، اللهم انصر عبادك المجاهدين في سبيلك في كل مكان انصرهم في فلسطين وأفغانستان والشيشان، اللهم وفقنا لما تحب وترضى وجنبنا كل ما يغضب وجهك الكريم يا أرحم الراحمين، اللهم اشف مرضانا ومرضى المسلمين، اشفنا واشف والدينا وكل من له حق علينا واغفر لنا ولوالدينا ولوالد والدينا ولجميع المسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، يا رب العالمين.
عباد الله صلوا على نبيكم نبي الرحمة صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.