بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي شرع لعباده حج بيته الحرام، وجعل ذلك أحد أركان الإسلام، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله ليبين لأمته شرائع الإسلام صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الأئمة الأعلام، وسلم تسليمًا كثيرًا. أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى واعبدوه مخلصين له الدين كما أمركم بذلك في كتابه المبين.
عباد الله: في هذه الأيام المباركة يستعد المسلمون للسفر لحج بيت الله الحرام منهم المتنفل بحجه ومنهم من يؤدي به فريضة الإسلام، ولا شك أن ذلك يحتاج إلى استعداد بما يلزم له ماليًا وبدنيًا ونية وقصدًا فيحتاج إلى استعداد بالنفقة الكافية التي يستغني بها عن الناس، قال تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾، فأمر سبحانه بالتزود وهو أخذ الزاد الكافي لسفره ذهابًا وإيابًا وتوفير المركوب المناسب الذي يحمله في سفره ويبلغه إلى بيت الله، ثم يرده إلى وطنه، قال سبحانه: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾، والسبيل الذي اشترط الله استطاعته هو الزاد والمركوب المناسب في كل وقت بحسبه، ولما كان أناس يحجون بلا زاد ويُصبحون عالة على الحجاج ويقولون نحن متوكلون، نهاهم الله عن ذلك، وأمرهم بالتزود بما يغنيهم عن الناس، فقال تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾.
ولما كان الناس يظنون أن الاتجار والتكسب في موسم الحج لا يجوز للحجاج أنزل الله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ﴾، فبين سبحانه في هاتين الآيتين الكريمتين أنه لابد من أخذ زادين: زاد السفر للدنيا، وذلك بالطعام والشراب الكافيين إلى نهاية الرحلة، وزاد السفر للآخرة، وذلك بالعمل الصالح والابتعاد عن المعاصي، ثم بين سبحانه أن مزاولة التجارة والاكتساب وطلب الرزق الحلال لا يتعارض مع العبادة إذا لم يطغَ على وقتها ولم يشغل عنها، كما أن ذلك لا يتنافى مع التوكل، ثم لابد لمن يريد الحج أن يُوَفِّر لأهل بيته ما يكفيهم من النفقة إلى أن يرجع إليهم، ولا يجوز له أن يتركهم بدون نفقة أو يُنقص من نفقتهم من أجل أن يوفر ما يكفي لحجه، فإنه في هذه الحالة آثم لا مأجور، قال صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء إثمًا أن يُضيع من يقوت».
كما أن على من يريد الحج أن يسدد الديون التي عليه أو يوفر لها ما يسددها، فإن لم يكن لديه من المال ما يكفي لنفقة الحج وسدد الدين فإنه قدم سداد الدين ولا يجوز له أن يحج في هذه الحالة، كما أن على الحاج أن يُنفق في حجه من الكسب الحلال ليكون حجه مبرورًا وذنبه مغفورًا، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا خرج الحاج حاجًّا بنفقة طيبة ووضع رجله في الْغَرْزِ فنادى: لبيك اللهم لبيك ناداه مناد من السماء: لبيك وسعديك، زادك حلال وراحلتك حلال وحجك مبرور غير مأزور، وإذا خرج بالنفقة الخبيثة فوضع رجله في الغرز فنادى: لبيك ناداه مناد من السماء: لا لبيك ولا سعديك زادك حرام ونفقتك حرام وحجك مأزور غير مبرور» رواه الطبراني.
والنفقة في الحج إذا كانت من كسب حلال تدخلُ في النفقة في سبيل الله.
ويجب على من يريد الحج أن يتوب إلى الله من سائر الذنوب، وإذا كان عنده مظالمُ للناس فعليه أن يردَّها إليهم ويطلبَ مسامحتهم ليستقبل حجه بالتوبة والتخلص من المظالم ويجب عليه أن يتجنب الذنوب والمعاصي وأن يحافظ على أداء الصلوات وسائر الواجبات وهذا أمرٌ يجب عليه في كل حياته وفي جميع حالاته، لكن الحاج يتأكد في حقه ذلك؛ لأنه في عبادة عظيمة فلا ينبغي له أن يدخل فيه وهو متلبس بالذنوب والمعاصي أو يفعل الذنوب والمعاصي أثناء الحج، قال تعالى: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من حج هذا البيت فلم يرفُث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه»، فمغفرة الذنوب بالحج ودخول الجنة مرتَّب على كون الحج مبرورًا، ويكون الحج مبرورًا باجتماع أمرين فيه:
أحدهما: الإتيان فيه بأعمال البر ومنها الإحسان إلى الناس بالبر والصلة وحسن الخلق، ولما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن البر قال: حسن الخلق، وهذا يحتاج إليه في الحج كثيرًا بحيث يعامل الناس بالإحسان بالقول والفعل سواء كانوا من رفقته في السفر أو من سائر الحجاج الذين يلتقي بهم في الحج والمشاعر، وقد قيل: إنما سمي السفر سفرًا لإسفاره عن أخلاق الرجال، وفي مسند الإمام أحمد عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الحج المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة»، قالوا: وما برُّ الحج يا رسول الله؟، قال: «إطعام الطعام وإفشاء السلام». وسئل سعيد بن جبير رحمه الله أي الحاج أفضل؟ قال: “من أطعم الطعام وكف لسانه”.
وفي الجملة فخير الناس أنفعهم للناس وأصبرهم على أذى الناس كما وصف الله المتقين بذلك فقال: ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾.
الأمر الثاني: وهو من أعظم أنواع البر في الحج: كثرةُ ذكر الله فيه، وقد أمر الله تعالى بذكره في إقامة مناسك الحج مرة بعد أخرى خصوصًا في حال الإحرام بالتلبية والتكبير فما تزود حاج ولا غيره أفضل من زاد التقوى، فإن التقوى تجمع خصال الخير كلها. ويجب على الحاج أن يخلص النية لله في حجه بأن لا يقصد بها رياءً ولا سمعة ولا طمعًا من مطامع الدنيا، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾، وإتمام الحج الإتيان بمناسكه على الوجه المشروع خالصًا فيه النية لله وحده وتخليص أفعاله من الشرك الأكبر والأصغر لا يكون فيه رياء ولا سمعة ولا فخر ولا خيلاء ولا مباهاة ويتواضع في حجه، فقد حج النبي صلى الله عليه وسلم على رَحلٍ رثٍ وقطيفة ما تساوي أربعة دراهم وقال: «اللهم اجعلها حجة لا رياء فيها ولا سمعة».
وينبغي للحاج أن يصبر على المشقة ولا يرفه نفسه في الحج، فإن بعض الناس في هذا الزمان يكثر من الأبهة ويأخذ الكماليات الكثيرة من السيارات والأثاث والخيام التي يضايق بها الحجاج.
وعلى الحاج قبل أن يسافر للحج أن يكتب ما له وما عليه من الديون وما عنده من الودائع والأمانات من أجل أنه لو قدر أن يجري عليه شيء في سفره من موت، أو عائق يمنعه من الرجوع إلى وطنه فإنه يكون قد وثق هذه الحقوق وبيَّنها فيضمن بذلك وصولها إلى أهلها وتبرأ ذمته منها.
فاتقوا الله عباد الله واستعدوا للحج بما يليق وأدُّوه على الوجه المشروع وأكملوا مناسكه وأخلصوا النية فيه لله مع الخشوع والسكينة والتواضع فيه لله، والإحسان إلى إخوانكم الحجاج وعدم أذيتهم ومضايقتهم، واصبروا على مشاقه وما ينالكم فيه من التعب فإنه من الجهاد، والجهاد لابد فيه مشقة وتعب. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بالآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، أوجب على عباده حج البيت من استطاع إليه سبيلًا، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو، فاتخذه وكيلًا وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين صدقوا ما عاهدوا عليه وما بدلوا تبديلًا، وسلم تسليمًا، أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى وحافظوا على دينكم من جميع جوانبه ولا تكونوا ممن يهتم بجانب منه ويُهمل الجوانب الأخرى، فإن بعض الناس يهتم بالحج والعمرة ويُضيّع بقية أركان الإسلام فلا يهتم بإصلاح العقيدة التي هي أساس الدين، فتراه يدعو الموتى ويتقرب إليهم بأنواع العبادات، أو لا يهتم بالصلاة التي هي عمود الدين، وتركها كفرٌ بالله وخروج من الدين، ولا يهتم بأداء الزكاة التي هي قرينة الصلاة وثالثة أركان الإسلام ولا يصومُ رمضان الذي جعل الله صومه فريضة على أهل الإيمان وهذا لا يقبل منه حج ولا عمرة ما دام مضيِّعا لأركان الإسلام أو بعضها، قال الله تعالى: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ . أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾.
فليس الدين هو الحج فقط، وإنما الحج جزء من الدين، وركن من أركانه، وقبله أركان آكد منه لا يصح فعله ولا يقبل إلا بعد أدائها، فمن كان مضيعًا لشيء من أركان الإسلام وهو يريد أن يحج فعليه أن يتوب إلى الله توبة صحيحة ويؤدي ما ترك ويحافظ على أدائه ثم يحج بعد ذلك لعل الله يقبل توبته ويتقبل منه حجه وسائر عباداته ثم يستمر على التوبة ويستقيم على الدين والطاعة ويتجنب المعاصي في بقية حياته ومستقبل أيامه، فإن الأعمال بالخواتيم وباب التوبة مفتوح ما لم يحضر الأجل، والأجل منتظرٌ حضوره في كل لحظة، ولا يدري أحدٌ متى تحين وفاته: ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ﴾، فاتقوا الله عباد الله، وبادروا بالتوبة وحافظوا على الطاعة واعلموا أن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، واعلموا أن الله أمركم بأمر بدأ به بنفسه، فقال عز من قائل عليمًا: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وارض اللهم عن الصحابة وآل بيته والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروه يذكركم واشكروه على آلائه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.