بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين، يوالي على عباده مواسم الخير ويحثهم على اغتنامها بالطاعة، ليكفر عنهم سيئاتهم ويرفع من درجاتهم تفضلًا منه وإحسانًا، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أول سابق إلى الخيرات صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه الذين لا تمر عليهم فرصة للخير إلا شغلوها بالأعمال الصالحة ﴿أُولَٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾. أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى واغتنموا أعماركم بالأعمال الصالحة فإنها تنقضي سريعة واعلموا أنها تمر بكم أوقات الفضائل ومواسم الخيرات والنفحات، فالسعيد من تنبه لها واستفاد منها والشقي من غفل عنها وضيّع نفسه، قال صلى الله عليه وسلم: «الكيس من دانه نفسه -يعني حاسبها- وعمل لما بعد الموت والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني».
عباد الله: مضت أشهر الحج إلى بيت الله الحرام وطُوي بمضيها صفحة من صفحات أعمارنا قد سجل فيها ما عملناه في تلك الأشهر من خير أو شر، لقد مضت أشهر الحج بخيراتها وبركاتها، فلنحاسب أنفسنا ماذا عملناه فيها، فإن كان خيرًا حمدنا الله وسألناه القبول والزيادة من الخير، وإن كان شرًّا استغفرنا الله منه وأتبعناه بالحسنات التي تمحوه، أجل لقد مضت أشهر الحج التي دعا الله عباده فيها لزيارة بيته العتيق ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾ فأتوا من كل فج عميق لبيك اللهم لبيك ﴿لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ فمن تقبله الله منهم رجع بحج مبرور «والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة»، «ومن أتى هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه»، لقد مضت تلك الأيام وأوقع المسلمون فيها الحج منهم المفترض ومنهم المتنقل ورجع المقبولون منهم مغفورة لهم خطاياهم كيوم ولدتهم أمهاتهم، مضت تلك الأيام التي فيها عشر ذي الحجة التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام» -يعني أيام العشر- قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: «ولا الجهاد فلي سبيل الله، إلا رجلًا خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء» رواه البخاري.
وقد أقسم الله تعالى بها في كتابه الكريم حيث يقول: ﴿وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾ وفي تلك العشر يوم عرفة الذي فيه الوقوف بعرفة وهو ركن الحج الأعظم قال النبي صلى الله عليه وسلم «الحج عرفة» ويوم عرفة هو يوم العتق من النار وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبيدًا من النار من يوم عرفة وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة» وفي تلك العشر يوم عيد الأضحى المبارك الذي هو يوم الحج الأكبر لما انتهى يوم عرفة وأعتق الله عباده المؤمنين من النار اشترك المسلمون كلهم في العيد بعده يتقربون إليه بذبح الهدي والأضاحي، فأهل الحج في ذلك اليوم يرمون الجمرة ويكملون مناسكهم وأهل الأمصار يجتمعون على ذكر الله وتكبيره والصلاة له، ثم أعقب ذلك أيام التشريق التي هي أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل، وهي الأيام المعدودات التي قال الله تعالى فيها ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ﴾ وهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر.
عباد الله: لقد انتهت تلك الأيام العظيمة والمواسم الجليلة بخيراتها وبركاتها فماذا استفدنا منها؟ لنحاسب أنفسنا، فمن قدم خيرًا فليحمد الله ويواصل أعمال الخير ومن فرط في تلك الأيام وضيّع تلك الفضائل فليستغفر الله ويحفظ بقية عمره ويصلح في مستقبله.
عباد الله: لقد شرع الله الاستغفار بعد انتهاء العبادات وانقضاء مواسم الخيرات فلنكثر من الاستغفار فإنه يجبر النقص ويسد الخلل، ثم لنعلم أننا بعد أيام قليلة سنودع عامنا هذا ونستقبل عامًا جديدًا أوله شهر المحرم الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله الذي تدعونه المحرم وأفضل الصلاة بعد الفريضة قيام الليل» رواه مسلم، وهكذا لا ينتهي موسم من مواسم الخير إلا ويعقبه موسم آخر وهكذا فضل الله يتوالى على عباده.
عباد الله: لنتذكر بانتهاء الأيام والشهور انقضاء الأعمار والرحيل إلى دار القرار وأن الدنيا ليست بدار مقام وإنما هي ممر إلى الآخرة وسوق يتزود منه المسافر زاد سفره فتزودوا منها بالأعمال الصالحة ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ﴾ فما عِيبت الدنيا بأكثر من ذكر فنائها وتقلب أحوالها وهو أول دليل على انقضائها وزوالها، فتتبدل صحتها بالسقم ووجودها بالعدم وشبيبتها بالهرم ونعيمها بالبؤس وحياتها بالموت وعمارتها بالخراب واجتماعها بفرقة الأحباب وكل ما فوق التراب تراب.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ . أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بالآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله معز من أطاعه ومذل من عصاه، أحمده حمدًا طيبًا مباركًا فيه وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله وراقبوه واعلموا أنه الله يراكم من حيث لا ترونه، رقيب على أعمالكم محص لكم عليها فتنبهوا لذلك وصلوا على نبيكم نبي الرحمة والهدى، فقد أمركم بذلك المولى جل وعلا، فقال سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ اللهم صلِّ وسلم على نبي الرحمة والهدى وارض اللهم عن صحابته وآل بيته والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم تقبل من الحجاج حجهم ويسر لهم أمورهم، اللهم اغفر لنا ولهم، اللهم تب على التائبين واغفر لمن استغفرك واستهداك، اللهم انصر الإسلام والمسلمين، اللهم وفق ولاة المسلمين لما فيه صلاح العباد والبلاد، اللهم وفق أئمتنا وولاة أمورنا وخذ بأيديهم للبر والتقوى، اللهم يا رب الأرباب ومسبب الأسباب أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم عاملنا بما أنت أهله ولا تعاملنا بما نحن أهله يا أرحم الراحمين، اللهم أغث البلاد والعباد.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروه يذكركم واشكروه على آلائه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.