بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له وليًا مرشدًا، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: اتقوا الله حق التقوى واعلموا أنكم اليوم أقدر على العمل منه غدًا، فاغتنموا هذه الأوقات بالأعمال الصالحة.
عباد الله: إن شعيرة الصلاة من أعظم شعائر الإسلام وأرفعها منزلة، كيف لا يكون ذلك وهي ركن من أركان الإسلام لا تبرأ ذمة المكلف المستطيع إلا بالإتيان بها، ومما يؤكد أهميتها وعظم شأنها فرضها الله تعالى على نبينا صلى الله عليه وسلم بلا واسطة، إضافة إلى فرضها في حال السلم والحرب والسفر والحضر، بل جعلت فيصلًا في انتقال الإنسان من دائرة الإسلام إلى دائرة الكفر وبكل حال فمنزلة الصلاة معلومة مشهورة.
عباد الله: إن مما يتميز به المجتمع الإسلامي ظاهرة اجتماعهم لأداء صلاة الجماعة، والظواهر الإسلامية كثيرة، لكن ظاهرة الصلاة من أبرزها، لكونها تكرر خمس مرات في اليوم والليلة، وأن مما لا شك فيه ولا ريب أن توافد المسلمين زرافات ووحدانًا إلى المساجد ومن ثمَّ وقوفهم صفوفًا مستقيمة لأداء الصلاة. لا شك أن تلك الظاهرة ظاهرةٌ تبهج النفوس وتشرح الصدور؛ لما فيها من الفوائد التربوية والاجتماعية والنفسية.
فمن ثمار الصلاة وفوائدها:
اجتماع المصلين خمس مرات في مكان واحد في كل يوم وليلة يتلاقون جميعًا، فيطمئن بعضهم على بعض ويتفقد بعضهم بعضًا، فهذا يصافح هذا ويطمئن عليه وآخر يسأل عن أخيه المتغيب، وعسى أن يكون مانعه خيرًا، يقفون صفًا واحدًا الغني والفقير والكبير والصغير، لا فرق بينهم ولا تفاوت، فالمقام مقام عبادة أمام خالقهم ومولاهم، وبكل حال فالكلام عن منزلة الصلاة يطول كثيرًا. وقد بسط ذلك علماؤنا وأئمتنا من السابقين والمعاصرين في كتبهم ورسائلهم وفتاواهم جزاهم الله عن الإسلام خيرًا.
وأما الكلام في هذه الجمعة فسيكون عن ظاهرة من الظواهر المتعلقة بالصلاة، وهذه الظاهرة قد تكون قاسمًا مشتركًا بين كثير من المصلين مع أن كثيرًا من أولئك المصلين لم يلقوا بالاً لغياب تلك الظاهرة أو غياب أكثرها، وهذه مصيبة أكبر من أختها الأولى، تلكم الظاهرة هي ظاهرة عدم الخشوع في الصلاة.
أيها الإخوة: كم نصلي من الفرائض، وكم نصلي من النوافل؟ وكم نصلي من ذوات الأسباب.
أين أثر الصلاة علينا؟ أين السكينة والروحانية التي تغشى المصلي في صلاته ويظهر أثرها عقب صلاته؟ أين تلك المعالم والفضائل؟
يضيق أحدنا ذرعًا إذا تأخر الإمام دقائق معدودة ويبدأ في عد اللحظات والأنفاس، مع أن جلوسه في مصلاه مكوث في خير وعلى خير وإلى خير. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزال أحدكم في صلاةٍ ما دامت الصلاة تحبسه، لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا الصلاة» متفق عليه.
يتفقد أحدنا نفسه عند إحساسه بالمرض ويسارع طلبًا في تحصيل الدواء؛ بل ولا تقر عينه ولا تهدأ نفسه حتى يبرأ من مرضه وعلته وشكواه؛ بل ويكون في أثناء مرحلة العلاج متفقدًا لنفسه وهل أثرَّ العلاج فيه؟ وهلم جرّا من تلك التفقدات وذلك الحرص الذي يدل على شدة اهتمامه وبالغ حرصه على إزالة ذلك المرض المعيّن.
أيها الإخوة: كم تلوثت كثير من الجوارح في بحر الخطايا والآثام؟ وكم قصر كثير منا؟ وكم سوّفنا وأهملنا؟
أين تأثير الصلاة علينا؟ كم من المسلمين من يخوض في أوحال المعاصي، فإذا ما نودي إلى الصلاة قام وشارك المصلين صلاتهم حتى إذا ما قضيت الصلاة عاد إلى ما كان عليه من الخطايا، فيا عجبًا ممن كان هذا شأنه!
أين هؤلاء من قول الله تعالى: ﴿الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾؟ والصلاة من أعظم أنواع ذكر الله تعالى.
أخرج عبد بن حميد عن أبي العالية رضي الله عنه في قوله: “إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، قال: الصلاة فيها ثلاث خلال: الإخلاص والخشية وذكر الله، فكل صلاة ليس فيها من هذه الخلال شيء فليست بصلاة، فالإخلاص يأمره بالمعروف والخشية تنهاه عن المنكر، وذكر الله هو القرآن يأمره وينهاه.
عباد الله: إن مسألة الخشوع في الصلاة من الأهمية بمكان، كيف لا يكون ذلك وقد جعلها الله سببًا من أسباب الفلاح كما قال الله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾.
فالخشوع في الصلاة يجلب لصاحبه فوائد ومنافع كثيرة في الدين والدنيا والآخرة، فيفتح له بإذن الله أبوابًا من الخير والتوفيق ناهيك عن انشراح صدره وقرة عينه بما يحس به من الراحة النفسية، والطمأنينة القلبية وهذا غيض من فيض من ثمار خشوع العبد في صلاته.
وإذا كان ذلك كذلك أليس من التفريط بل من الحرمان أن لا يتفطن المصلي إلى صلاته ومدى خشوعه فيها وما موانع عدم خشوعه وكيف الوصول إلى تحصيل الخشوع؟
إن الأولى بكل واحد منا أن يكون حرصه وتفقده لأمور دينه أكثر من أمور دنياه؛ بل إن صلاح أمور دينه سبب في صلاح أمور دنياه وليس العكس.
عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من امرئ مسلم تحضره صلاةٌ مكتوبة فيُحسن وضوءها وخشوعها ورُكوعها إلا كانت كفارةً لما قبلها من الذنوب ما لم يُؤتِ كبيرة، وذلك الدهر كلَّه» رواه مسلم.
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إليه الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بالآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده ولا معبود بحق سواه والصلاة والسلام على الهادي البشير النذير محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
وبعد: وبما أن الحديث عن أمر الخشوع في الصلاة وكيف الطريق إلى تحصيل أسباب الخشوع في الصلاة فيستحسن في هذا المقام أن يُضرب مَثَلٌ لتقريب الحال، فيقال: لو أن رجلًا اشتكى من نفسه مرضًا ألمّ به فإن المتبادر بدهيًا أنه سيذهب من فوره إلى الطبيب طلبًا للاستطباب والعافية بإذن الله تعالى، وبعد أن شخّص الطبيب مرضه ووصف له علاجه وبيّن أن ذلك العلاج من أنفع الأدوية لعلة مرضه وشكواه إلى هذا الحد لا غرابة ولا عجب في وقائع هذا المثل، إنما الغرابة والعجب في عدم تأثر المريض بذلك العلاج إطلاقًا، بل وبقاء مرضه وعلته مصاحبة له، وهنا يكون التساؤل والإشكال أين أثر العلاج على ذلك المريض؟ وهل ممكن الخلل في ذات المريض؟ أو في تشخيص الطبيب للمريض؟ أو في طريقة استعمال المريض للعلاج؟
عباد الله: عند طرح تلك التساؤلات وبعد البحث والمشاهدة علم أن الطبيب كان حاذقًا والدواء كان ناجعًا، إذن فالخلل والعتب في استعمال المريض للدواء وعدم إتقانه لطريقة تناوله، وبعد هذا المثل تقاس عليه ظاهرة عدم الخشوع في الصلاة فيقال: إن المريض هو المسلم المصلي، والمرض هو عدم خشوعه في صلاته والمشخص للمرض هي النصوص الشرعية التي فيها التهذيب والتقويم لأمور المسلم في عباداته ومعاملاته وسلوكياته.
شاهد المقال: أنه بذلك القياس المتطابق يكون السبب في عدم الخشوع في الصلاة راجعًا إلى عدم فعله الأسباب الجالبة للخشوع وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.
الله نسأل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، اللهم ارزقنا خشوع القلوب والأبدان، اللهم يا ذا الأسماء الحسنى ويا ذا الصفات العلى، يا من قال: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ اللهم وفقنا لصالح القول والعمل في السر والعلن. اللهم أصلح نياتنا وذرياتنا واجعلنا من عبادك الصالحين.
اللهم انصر عبادك وأوليائك في كل مكان، انصرهم في كل بلد يذكر فيه لا إله إلا الله محمد رسول الله. اللهم وفق ولاتنا وولاة المسلمين لما تحبه وترضى وخذ بناصيتهم للبر والتقوى. اللهم أنت الله لا إله إلا أنت. أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين. اللهم اسق به البلاد والعباد. اللهم عاملنا بما أنت أهله ولا تعاملنا بما نحن أهله يا أرحم الراحمين. اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وقوموا إلى صلاتكم يغفر الله لي ولكم.