بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾، أما بعد:
فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلك في دعوته أساليب شتى ومن ذلك ذكر القصص الواقعية الصحيحة فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر لأمته من قصص الأمم السابقة ما يكون فيه عبرة لمن يعتبر، ذلك أن لذكر القصص الواقعية أثرًا لا ينكر وسلطانًا بالغًا على النفوس.
ونقف أيها الإخوة مع قصة من قصص الأمم السابقة قصها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم حتى أووا المبيت إلى غار فدخلوه فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار فقالوا إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم فقال رجل منهم اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما أهلًا ولا مالًا (أي لا أقدم في الشرب قبلهما أحدًا)، فنأى بي في طلب شيء يومًا فلم أرح عليهما حتى ناما فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين وكرهت أن أغبق قبلهما أهلًا أو مالًا فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر فاستيقظا فشربا غبوقهما اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة فانفرجت شيئًا لا يستطيعون الخروج، وقال الآخر اللهم كانت لي بنت عم كانت أحب الناس إليَّ فأردتها عن نفسها فامتنعت مني حتى ألمت بها سنة من السنين فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعلت، حتى إذا قدرت عليها قالت: لا أحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه، فتحرجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إليَّ، وتركت الذهب الذي أعطيتها. اللهم إن كنت فعلت ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها، وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله أدِّ إليَّ أجري، فقلت له: كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق، فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي، فقلت: إني لا أستهزئ بك فأخذه كله فاستاقه، فلم يترك منه شيئًا، اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون ».
عباد الله: تأملوا هذه القصة العظيمة، هؤلاء الثلاثة عرفوا الله في الرخاء فعرفهم الله في الشدة، وهكذا كل من تعرف إلى الله في حال الرخاء واليسر فإن الله تعالى يعرفه في حال الشدة والضيق والكرب، فيلطف به ويعينه وييسر له أموره، قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾، ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾.
فالأول من هؤلاء الثلاثة ضرب مثلًا عظيمًا في البر بوالديه، بقي طوال الليل والإناء على يده لم تطب نفسه أن يشرب منه ولا أن يسقي أولاده وأهله ولا أن ينغص على والديه نومهما حتى طلع الفجر؛ فدل هذا على فضل بر الوالدين وعلى أنه سبب لتيسير الأمور وتفريج الكروب، وبر الوالدين هو أعظم ما يكون من صلة الرحم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه» متفق عليه. وهذا جزاء معجل لصاحبه في الدنيا يبسط له في رزقه ويؤخر له في أجله وعمره، هذا غير الجزاء الأخروي المدخر له في الآخرة، وفي المقابل حذر الإسلام من عقوق الوالدين، بل جعل ذلك من أكبر الكبائر، فقد جاء في الصحيحين عن أبي بكر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثًا، قلنا بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس وقال: ألا وقول الزور وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت»، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «رغم أنفه ثم رغم أنفه ثم رغم أنفه، قيل: من يا رسول الله، قال من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كليهما ثم لم يدخل الجنة»، قال أهل العلم وفي هذا الحديث دليل على أن بر الوالدين عند كبرهما وضعفهما بالخدمة، أو النفقة، أو غير ذلك سبب لدخول الجنة، فمن قصر في ذلك فاته دخول الجنة وأرغم الله أنفه.
عباد الله: إن بعض الناس لا يبالي بشأن بر والديه بل تجده إما عاقًّا لهما في القول أو الفعل أو تجده معرضًا عنهما، ألا فليعلم أن الإعراض عن الوالدين حتى ولم لم يسيء إليهما هو في الحقيقة عقوق لهما.
عباد الله: وثاني هؤلاء الثلاثة في القصة، رجل ضرب مثالًا بالغًا في العفة الكاملة حين تمكن من حصوله مراده من هذه المرأة، التي هي أحب الناس إليه ولكن عندما ذكرته بالله تركها، وهي أحب الناس إليه، ولم يأخذ شيئًا مما أعطاها. فجاء في الصحيحين في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، أن من ضمن هؤلاء السبعة «رجلًا دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله».
ألا ما أعظم العفة، وسبحان الله فيما نراه في واقع حياتنا التي تعج بالمؤثرات وتبعث على إثارة الشهوة وبين واقع هذا الرجل الذي توفرت له كل السبل ولكنه خاف الله واتقاه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بالآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك، تعظيمًا لشأنه وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فاعلموا أن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة.
عباد الله: وثالث هؤلاء المذكورين في القصة: رجل ضرب مثلًا عظيمًا في الأمانة والنصح حيث ثمَّر للأجير أجره فبلغ ما بلغ وسلمه إلى صاحبه ولم يأخذ على عمله شيئًا.. ما أعظم الفرق بين هذا الرجل وبين أولئك الذين يظلمون الأجراء ويأكلون حقوقهم لاسيما إن كانوا من العمال الوافدين، فتجد هؤلاء الكفلاء يكاد يَصْدُق فيهم قول الله تعالى: ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ﴾، فهم يريدون من هؤلاء العمال أن يقوموا بالعمل على أكمل وجه ولكنهم يبخسونهم حقوقهم ويماطلون في إعطائهم أجرتهم وربما رجع بعض أولئك العمال إلى بلدانهم ولم يستوفوا أجرهم. ألا فليعلم أن من استأجر أجيرًا ولم يوفه أجره فإن الله تعالى سيكون خصمه يوم القيامة، لن يكون خصمك هذا العامل المسكين الضعيف، ولكن سيكون خصمك رب العالمين، كما جاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ومن كنت خصمه فقد خصمته، وذكر منهم رجلًا استأجر أجيرًا فاستوفى منه ثم لم يعطه أجره».
عباد الله: ودل هذا الحديث على مشروعية التوسل بالأعمال الصالحة؛ بل إن ذلك التوسل سبب لتفريج الكروب، وانظر إلى حال هؤلاء الثلاثة لما ضاقت بهم السبل توسلوا إلى الله تعالى بصالح أعمالهم ففرج الله عنهم.
ألا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى محمد بن عبدالله الذي أمرنا الله عز وجل بالصلاة والسلام عليه، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وارض اللهم عن الصحابة الأجلاء والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بعفوك ورضوانك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين ودمر أعداء الدين، اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل الدين، وانصر عبادك الموحدين وانصرهم نصرًا مؤزرًا، اللهم وفق ولاة المسلمين لتحكيم كتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم. اللهم وفق ولاة أمرنا وارزقهم البطانة الصالحة. اللهم ارزقنا حبك وحب من يحبك واجعل ولاءنا ومحبتنا لخلقك فيك وبك يا أرحم الراحمين. اللهم جنبنا المعاصي والفتن وكل ما يغضب وجهك الكريم وأحسن خاتمتنا في جميع الأمور واجعل آخر كلامنا من الدنيا شهادة إلا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
اللهم اغفر لكل من حضر هذه الخطبة واستمع لها واغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات يا أرحم الراحمين.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروه يذكركم واشكروه على آلائه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.