بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي منّ علينا بالإسلام، وأرسل إلينا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، بعثه الله بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، بعثه الله رحمة للعالمين وقدوة للعاملين وحجة على العباد أجمعين، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده حتى ترك أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾.
أيها الإخوة: لقد كانت وفاة النبي صلى الله عليه وسلم مصيبة حلت بكل مسلم، لما فقده الجذع الذي كان يخطب عليه النبي صلى الله عليه وسلم قبل اتخاذ المنبر حنَّ إليه وصاح كما يصيح الصبي حتى تصدع وانشق، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم من على المنبر فاعتنقه، فجعل يهدؤه كما يهدي الصبي وقال:«لو لم أعتنقه لحن إلى يوم القيامة» رواه أحمد وابن ماجه والدارمي.
كان الحسن البصري إذا حدث بهذا بكى وقال: هذه خشبة تحنّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه، جعل النبي صلى الله عليه وسلم آخر عمره يعرّض باقتراب أجله، فإنه لما خطب في حجة الوداع قال للناس: «خذوا عني مناسككم فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا»، وطفق يودع الناس فقالوا: هذه حجة الوداع، ولما رجع من حجته إلى المدينة جمع الناس فخطبهم وقال: «يا أيها الناس: إنما أنا بشر، يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب» رواه مسلم، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه وهو معصوب الرأس فقام على المنبر فقال: «إن عبدًا عرضت عليه الدنيا وزينتها فاختار الآخرة»، فلم يفطن لها أحد من القوم إلا أبو بكر رضي الله عنه، فقال: بأبي وأمي، بل نفديك بأموالنا وأنفسنا وأولادنا يا رسول الله «ثم هبط رسول الله صلى الله عليه وسلم من على المنبر فما رُئي عليه حتى الساعة» رواه أحمد.
ورأى العباس بن عبدالمطلب رضي الله عنه عم النبي صلى الله عليه وسلم في المنام كأن الأرض تنزع إلى السماء بأشطان شداد، يعني حبال، فقصها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ذاك وفاة ابن أخيك» رواه الطبراني.
كل هذا توطئة لوفاة النبي صلى الله عليه وسلم، بدأ المرض برسول الله عليه الصلاة والسلام في أواخر شهر صفر وكانت مدة مرضه ثلاثة عشر يومًا أو قريبًا من ذلك، وكان أول ما ابتدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من مرضه وجعُ رأسه وكان صداع الرأس يعتريه كثيرًا في حياته ويتألم منه أيامًا وفي مرضه اشتدت عليه الحمى فكان يجلس في مخضب ويُصب عليه الماء من سبع قرب يتبرد بذلك، وكان عليه قطيفة فكانت حرارة الحمى تصيب من وضع يده على القطيفة ومن شدة وجعه كان يغمى عليه في مرضه ثم يفيق، قال عائشة رضي الله عنهما:(ما رأيت أحدًا كان أشد عليه الوجع من رسول الله صلى الله عليه وسلم).
واشتد عليه الوجع ليلة الاثنين وكان عنده قدح من ماء، فيدخل يده في القدح ثم يمسح وجهه بالماء ويقول: «اللهم أعني على سكرات الموت» قالت عائشة رضي الله عنهما: وكان يقول: «لا إله إلا الله إن للموت لسكرات» وفي حديث مفصل أنه قال: «اللهم أعني على الموت وهوّنه عليَّ» ولما ثقل النبي صلى الله عليه وسلم جعل يتغشاه الكرب، قالت فاطمة رضي الله عنها: “وا كرب أبتاه، فقال لها: «لا كرب على أبيك بعد اليوم».
ولم يقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى خُيّر بين الدنيا والآخرة، غُشي عليه ساعة وهو على فخذ عائشة رضي الله عنهما وكانت تنظر إليه متحيرة حبيبها بين يديها يموت ولا تملك له نفعًا ولا تدفع عنه ضرًا، ثم أفاق، فأشخص بصره إلى سقف البيت ثم قال: «اللهم الرفيق الأعلى» فاختار لقاء ربه وأصابته بحة شديدة وقال: «مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا»، اختار رسول الله صلى الله عليه وسلم الآخرة على الدنيا وأحب لقاء ربه.
قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: (نُعي إلينا حبيبنا ونبينا -بأبي هو ونفسي له الفداء- قبل موته بست، فلما دنا الفراق جمعنا في بيت أمنا عائشة رضي الله عنها فنظر إلينا فدمعت عيناه) رواه البزار.
حُقَّ والله لتلك العينين أن تدمع، إنها صعوبة الفراق والنأي عن الأحباب.
وكانت وفاته صلى الله عليه وسلم في يوم الاثنين ثاني عشر من شهر ربيع الأول.
وكان قد كشف الستر في ذلك اليوم والناس في صلاة الصبح خلف أبي بكر رضي الله عنه، فهمّ المسلمون أن يفتنوا من فرحهم برؤيته صلى الله عليه وسلم حين نظروا إلى وجهه كأنه ورقة مصحف، وظنوا أنه يخرج للصلاة وأنه شفي من مرضه، جعل النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إليه وهم ينظرون إليه، إنها النظرات الأخيرة، نظرة الوداع، فأشار إليهم النبي صلى الله عليه وسلم أن مكانكم ثم أرخى الستر وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد الضحى من يوم الاثنين.
ولما توفي اضطرب المسلمون، فمنهم من دهش فخولط، ومنهم من أقعد فلم يطق القيام، ومنهم من اعتقل لسانه فلم يطق الكلام، ومنهم من أنكر موته بالكلية من شدة وجده عليه.
بلغ أبا بكر الصديق رضي الله عنه الخبر فأقبل مسرعًا حتى دخل بيت عائشة رضي الله عنهما ورسول الله صلى الله عليه وسلم مسجّى، فكشف أبو بكر رضي الله عنه عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكب عليه وقبّل وجهه مرارًا وهو يبكي ويقول: وا نبياه وا خليلاه وا صفياه، إنا لله وإنا إليه راجعون، مات والله رسول الله ودفن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجع أصحابه بعد دفنه. فقالت فاطمة رضي الله عنها كيف طابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب.
وبعد موته عليه الصلاة والسلام، دخل أبو بكر رضي الله عنه المسجد وعمر رضي الله عنه يكلم الناس وهم مجتمعون عنده وهو يقول من شدة وجده على النبي صلى الله عليه وسلم إن محمدًا لم يمت، فتكلم أبو بكر رضي الله عنه، فأقبل الناس إليه وتركوا عمر فقال: من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وتلا: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾.
فاستيقن الناس بموت النبي صلى الله عليه وسلم وكأنهم لم يسمعوا هذه الآية من قبل فتلقاها الناس وجعلوا يتلونها.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بالآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على قائد الغر المحجلين نبينا محمد وعلى آله وصبحه أجمعين. أما بعد:
عباد الله: إن حبيبكم ونبيكم محمدًا صلى الله عليه وسلم مات شهيدًا قتيلًا مسمومًا، قتله وسمه تلك الأمة المغضوب عليها (اليهود) أهل الكذب والبهت والغدر والمكر والحيل، قتلة الأنبياء وأكلة السحت، أخبث الأمم طوية وأرداهم سجية وأبعدهم من الرحمة وأقربهم من النقمة، عادتهم البغضاء وديدنهم العداوة والشحناء بيت السحر والكذب والحيل، لا يرون لنبي حرمة ولا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة.
لما كان يوم خيبر أهدت امرأة يهودية للنبي صلى الله عليه وسلم شاة مسمومة، فأكل منها فجعل السم يثور عليه أحيانًا، وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنهما قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مرض موته: «ما أزال أجد ألَمْ الطعام الذي أكلت بخير فهذا أوان وَجْدتُ انقطاع أَبهَرِي من ذلك السم».
والأبهر: عرق في الظهر متصل بالقلب إذا انقطع مات صاحبه.
وجعل الله موت نبيه على يد اليهود لننابذهم العداوة ﴿إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾.
أيها الإخوة: إن اليهود قتلوا عددًا من الأنبياء والأصفياء، وتواتر غدرهم ونقضهم المواثيق ومن الأمثلة على ذلك ما حصل من يهود بني قينقاع، كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد إلا أنهم نقضوا عهدهم باعتدائهم على امرأة مسلمة حين دخلت سوق بني قينقاع وجاءت إلى صائغ يهودي لعلها تشتري منه حليًّا فعمد الصائغ اليهودي إلى طرف ثوبها من خلف وعقده إلى ظهرها وهي جالسة دون أن تشعر، فلما قامت انكشفت سوأتها فضحك اليهود وسخروا بها، فصاحت المرأة واستغاثت بالمسلمين لشرفها المهان، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، وقامت الحرب بين المسلمين واليهود، فأجلى النبي صلى الله عليه وسلم يهود بني قينقاع من المدينة.
وهكذا يهود بني النضير حين أتاهم النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه وقعد إلى جنب جدار، قال اليهود: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه، فمن رجل يعلو على هذا البيت فيلقي عليه صخرة فيريحنا منه، فلما صعد أحدهم ليلقي على رسول الله صلى الله عليه وسلم الصخرة، نزل الوحي على رسول الله عليه الصلاة والسلام وأخبره بغدر اليهود، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وجهز الجيش وأجلى يهود بني النضير منها.
وهكذا بنو قريظة نقضوا عهدهم وخانوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب حين تكالب عليه أعداؤه ولكن الله سلط عليهم رسوله والمؤمنين وعاقبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عقابًا شديدًا وطهّر رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة من اليهود، وهذا البيت من الأعصم اليهودي الساحر، سحر النبي صلى الله عليه وسلم في مُشطٍ ومَشاقةٍ وجُفٍّ طَلْعةِ ذَكَر ووضعه في بئر دروان حتى كان النبي صلى الله عليه وسلم يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولم يفعله، هذه صور من غدرهم ومكرهم عليهم لعنة الله، فهل من مدكر ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾.
إن واقعنا المعاصر ما هو إلا امتداد لما حدث في العهد النبوي، فهذا عبدالله بن سبأ اليهودي الذي أحدث فتنة اتهام عثمان بن عفان رضي الله عنه، أنه أحرق المصاحف، وبعد استشهاد عثمان بن عفان رضي الله عنه وإيلاء الحكم للخليفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه حرض الناس على المطالبة بدم عثمان وهكذا اشتعلت الفتنة وما واكبها من فتن في الكوفة ودمشق والمدينة، وزعيم إيقاد هذه الفتن شخص يهودي عبدالله بن سبأ.
انظروا يا عباد الله ما آل إليه حالنا من فتن وأحداث وحروب إن سببها هم اليهود والنصارى منفذون لهم، فهل من معتبر؟
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين وانصر عبادك الموحدين في برك وبحرك أجمعين، اللهم أقم علم الجهاد واقمع أهل الشرك والزيغ والفساد. اللهم منزل الكتاب وهازم الأحزاب اهزم أحزاب الباطل وانصر إخواننا المجاهدين في جميع بلاد المسلمين.
اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا واجعل ولايتنا فيمن خافك واتبع رضوانك.
اللهم أهلك كل من أراد إيقاد الفتنة في هذه البلاد وفي سائر بلاد المسلمين. ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: إن الله أمركم بأمر بدأ به بنفسه، فقال عز من قائل عليمًا: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وارض اللهم عن الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين، وقوموا إلى صلاتكم يغفر الله لنا ولكم.