بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى
الحمد لله ذي العزة والجلال ﴿هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ ، وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ﴾، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن على هديه يسير وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله تعالى وتفكروا في أحوالكم وما يجري حولكم من العبر لعلكم تذكرون، وإنكم في نعمة من الله تامة، أمن في أوطانكم وصحة في أبدانكم، ووفرة في أموالكم وبصيرة في دينكم، فماذا أديتم من شكر الله الواجب عليكم؟، فإن الله وعد من شكره بالمزيد، وتوعد من كفر بنعمته بالعذاب الشديد: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾، إن الله سبحانه وتعالى يُري عباده من آياته ليعتبروا ويتوبوا، فالسعيد من تنبه وتاب، والشقي من غفل واستمر على المعاصي ولم ينتفع بالآيات. كم تسمعون من الحوادث وتشاهدون من العبر، حروب في البلاد المجاورة أتلفت أممًا كثيرة، وشردت البقية عن ديارهم، أيتمت أطفالًا وأرملت نساءً، وأفقرت أغنياء وأذلت أعزاء، ولا تزال تتوقد نارها ويتطاير شرارها على من حولهم، في العراق في أفغانستان في فلسطين، وغير الحروب هناك كوارث ينزلها الله بالناس كالعواصف والأعاصير، التي تجتاح الأقاليم والمراكب في البحار كالفيضانات التي تغرق القرى والزرع، وهناك حوادث السير في البر والبحر والجو، والتي ينجم عنها موت الجماعات من الناس في لحظة واحدة، وهناك الأمراض الفتاكة المستعصية التي تهدد البشر، كل ذلك يخوف الله به عباده، ويريهم بعض قوته وقدرته عليهم، ويعرفهم بضعفهم ويذكرهم بذنوبهم، فهل اعتبرنا، هل تذكرنا، هل غيرنا من أحوالنا، هل تاب المتكاسل عن الصلاة، فحافظ على الجمع والجماعات هل تاب المرابي والمرتشي، والذي يغش في المعاملات، هل أصلحنا أنفسنا وطهرنا بيوتنا من المفاسد، كآلات اللهو وغيرها من المحرمات؟
إن أي شيء من هذه الأحوال لم يتغير إلا ما شاء الله، بل إن الشر يزيد، وإننا نخشى من العقوبة المهلكة: ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ۙ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ . ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۙ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾.
إن الله سبحانه توعد الذين لا يتعظون بالمصائب، ولا تؤثر فيهم النوازل فيتوبون من ذنوبهم، توعدهم بأن يستدرجهم بالنعم، ثم يأخذهم على غرة ويقطع دابرهم، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ . فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ . فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا ۚ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
عن عقبة بن عامر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج»، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ﴾ رواه أحمد.
أيها المسلمون: إنه والله يُخشى علينا اليوم الوقوع في مثل هذا، معاصينا تزيد، ونعم الله تتكاثر علينا، فاتقوا الله عباد الله، واحذروا نقمة الله التي حلت بمن كان قبلكم، ومن حولكم، أن تحل بكم، الدنيا لدينا معمورة، والمساجد مهجورة، أكثر الناس لا يأتون إليها، والذين يأتون إليها أغلبهم يأتون متأخرين، يأتون عند الإقامة أو بعدما يفوتهم أول الصلاة أو كلها، وأشد ما يكون الناس كسلًا في يوم الجمعة، الذي هو أفضل الأيام فلا يصلي الفجر هذا اليوم إلا القليل من الناس، ولا يحضرون لصلاة الجمعة إلا عند إقامة الصلاة، لا يسمعون الخطبة، ولا ينتفعون بالذكر والموعظة، مع أن حضور الخطبة واستماعها أمر مقصود، وقد عاب الله على الذين ينصرفون عن سماع الخطبة إلى طلب الدنيا، فقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ . فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ . وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا ۚ قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ ۚ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بالآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي منّ علينا بشريعة الإسلام، وشرع لنا ما يقرب إليه من صالح الأعمال، والحمد لله الذي أنعم علينا بصيام رمضان والقيام، ولم يبق منه إلا أيامًا معدودة، عدد أصابع اليد الواحدة، وجعل سبحانه ثواب من فعل ذلك تكفيرًا للخطايا والآثام، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا رسول الله أفضل من صلى وزكى وحج وصام، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله وفكروا في أمركم، فماذا عملتم في شهركم الكريم، فإنه ضيف كريم قارب الزوال، وأوشك على الانتهاء، وسيكون شاهدًا لكم أو عليكم بما أودعتموه من الأعمال، فابتدروا أيها المسلمون ما بقي منه بصالح الأعمال، والتوبة إلى الله والاستغفار، لعل ذلك يجبر ما حصل من التفريط والإهمال، فنسأل الله تعالى أن يخلف علينا ما مضى منها، وأن يبارك لنا فيما بقي منها، وأن يختم لنا شهرنا بالعفو والغفران والقبول، والعتق من النار، وبلوغ المأمول، وأن يعيد أمثاله علينا في خير وأمن وإيمان.
أيها المسلمون: لقد شرع لنا ربنا الكريم في ختام هذا الشهر عبادات جليلة يزداد بها إيماننا وتكمل بها عباداتنا، وتتم بها علينا نعمة ربنا، شرع لنا ربنا في ختام هذا الشهر زكاة الفطر والتكبير وصلاة العيد، فأما زكاة الفطر فهي صاع من طعام: صاع من البر أو الرز أو التمر أو غيرها من قوت الآدميين، وكلما كان من هذه الأصناف أطيب وأنفع للفقراء، فهو أفضل وأعظم أجرًا، فطيبوا بها نفسًا، وأخرجوها من أطيب ما تجدون، فلن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون، وهي ولله الحمد قدر بسيط لا يجب في السنة إلا مرة واحدة، فكيف لا يحرص الإنسان على اختيار الأطيب؟ مع أنه أفضل عند الله وأكثر أجرًا، ويجوز للإنسان أن يوزع الفطرة الواحدة على عدة فقراء، وأن يعطي الفقير الواحد فطرتين فأكثر.
وزكاة الفطر فرض على جميع المسلمين على الصغير والكبير والذكر والأنثى، فأخرجوها عن أنفسكم وعمن تنفقون عليهم من الزوجات والأقارب، ولا يجب إخراجها عن الحمل الذي في البطن، فإن أخرج عنه فهو خير، والأفضل إخراج الفطرة يوم العيد قبل الصلاة، ويجوز إخراجها قبل العيد بيومين فقط، ولا تجزئ بعد صلاة العيد، إلا إذا كان الإنسان جاهلًا لا يدري.
أما التكبير فيبدأ من غروب شمس ليلة العيد إلى الصلاة، قولوا: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، قولوا ذلك جهرًا في المساجد والأسواق والبيوت، إلا النساء فإنهن يكبرن سرًّا لا جهرًا، وأما الصلاة فقد أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى النساء، لما في حضورها من أجر عظيم، والسنة أن يخرج الرجال متطيبين لابسين أحسن ثيابهم بعد الاغتسال والتنظيف، والسنة أن يأكل الإنسان قبل خروجه إلى الصلاة تمرًا وترًا.
اللهم تقبل منا ما مضى من أيام الصيام والقيام، واجعلنا من عتقائك من النار، اللهم أعد علينا شهر رمضان برضوانك والعتق من نيرانك، اللهم تب علينا ولا تقطع رجاءنا، وبلغنا أمانينا في شهر الصيام، وأصلح لنا شأننا كله، واكفنا أمر ديننا ودنيانا وآخرتنا، وارزقنا قلوبًا تائبة، لا كافرة ولا مرتابة، واغفر لنا واهدنا وارزقنا وأنت خير الرازقين، اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل المسلمين، اللهم انصر إخواننا المستضعفين في كل بلد يذكر فيه لا إله إلا الله، اللهم وفق ولي أمرنا وارزقه البطانة الصالحة الناصحة، اللهم وفقه وإخوانه وأعوانه لما فيه صلاح البلاد والعباد، اللهم وفق ولاة جميع المسلمين وارزقهم تحكيم كتابك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم اسقنا غيثا مغيثًا سحًّا دحًّا غدقًا، اسق به العباد والبلاد يا أرحم الراحمين، اللهم حقق النصر للمسلمين وارزقنا صلاة في المسجد الأقصى، واجمع اللهم بعزتك وجلالك كلمة المسلمين على الحق يا رب العالمين، واجعلهم على صعيد واحد ضمن مكائد أعدائك أعداء الدين. اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى الآل والصحب أجمعين، وقوموا للصلاة يرحمني ويرحمكم الله.