بنيت الشريعة الإسلامية على السماحة والتيسير، ولكن هناك من الناس من يغالون ويلزمون الناس بالمغالاة والتشديد، ومن الظواهر البارزة في ذلك موقف البعض من توزيع المياه الباردة داخل المقابر مثلًا، أو إنشاء مظلات متحركة للوقاية من الشمس الحارة، أو كراسي لكبار السن الذين لا يستطيعون الوقوف طويلًا. فما موقف الشريعة من ذلك، وهل هناك ما يمنع شرعًا من توزيع المياه، أو وضع كراسي محدودة، أو مظلات متحركة؟
لا وجه للاستنكار
بداية يؤكد د. سليمان بن صالح القرعاوي أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة الملك فيصل بالأحساء: المسلم لا ينظر إلى الإحسان، وأنه خلق فاضل يجمل التخلق به فحسب، بل ينظر إليه وأنه جزء من عقيدته إذ الدين الإسلامي على ثلاثة أمور هي: الإيمان، والإسلام، والإحسان، وقد أمر الله سبحانه بالإحسان في غير موضع من كتابه إذ قال: ﴿وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾، وقال الرسول ﷺ: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء»، والإحسان في باب المعاملات للوالدين، والأقارب، وغيرهم، وهو أيضاً لعموم الناس بالتلطف في القول لهم، ومجاملتهم في المعاملة والمخاطبة بعد أمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وبإرشاد ضالهم، تعليم جاهلهم، وبإنصافهم من النفس، والاعتراف بحقوقهم، وبكف الأذى عنهم بعدم ارتكاب ما يضرهم، أو فعل ما يؤذيهم، وبقضاء حوائجهم، ومن قضاء الحوائج ما يقوم به بعض المسلمين من تقديم يد العون والمساعدة للمشيعين في الجنازة، من إحضار الماء البارد للشرب، وبخاصة في أوقات الظهيرة لتوقي شدة وهج الشمس، ومن أبرز من قال بذلك من العلماء المعاصرين سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله ، قال لما سئل عن هذه المسألة: لا حرج في جلب الماء البارد للشرب عند دفن الميت، لما في ذلك من الإحسان والمساعدة على الخير، وكذلك عندما سئل الشيخ ابن جبرين عن حكم من يقوم بتوزيع الماء البارد في القبور، وأن بعض الناس يستنكر توزيع المياه داخل المقبرة، ولا أرى سبباً موجباً لهذا الاستنكار، فالذين يحضرون كراتين المياه، ويوزعونها على المشيعين قصدوا بذلك تخفيف الظمأ والمشقة على الذين حضروا، ولهم أجر على ذلك، وليس فيه محظور، ولا مانع من الصدقة أو من التوسعة داخل سور المقبرة، ونعلم أنهم لا يعتقدون أن الأموات يشفعون لهم، أو يطلبون منهم مضاعفة الصدقة، وأن الصلاة عند القبور ورد النهي عنها مخافة اعتقاد فضلها على الصلاة في المساجد، أو اعتقاد شفاعة الأموات في قبول تلك الصلوات، فلا ينكر على من أحضر المياه ووزعها على المشيعين سيما في أيام الحر الشديد، فهو يخفف عنهم الظمأ، وأما جعل البرادات في أسوار المقابر يشرب منها من بداخل السور أو خارجه فلا مانع من ذلك ولمن فعلها أجر كأجرها في داخل المساجد، وأجرها في الأسواق والطرق، في تخفيف الظمأ عن المسلمين.
شعور إنساني
ويقول د. إبراهيم بن ناصر الحمود الأستاذ المشارك بالمعهد العالي للقضاء: إن هذه من العادات الحسنة، والأخلاق الجميلة التي جاء بها الإسلام، وهي باب من أبواب التعاون بين المسلمين، وشعور إنساني يدفع بصاحبه إلى تقديم خدمة تدعو الحاجة إليها والسقيا وقت الحاجة من أفضل الأعمال التي يحتسبها المسلم لوجه الله تعالى، ولا وجه للإنكار على من فعل ذلك في المقابر لأن المقابر ليست مقصودة بذاتها وإنما المقصود تجمع الناس تحت حرارة الشمس، ولا يخفى شدة حاجتهم تلك الساعة إلى الماء البارد والله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه، ويشمل ذلك أيضًا الاستضلال عن حرارة الشمس وخدمة كبار السن ومراعاة حالهم، كل ذلك يعد من أعمال البر التي يثاب عليها المسلم، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته.
وقد تكون هذه الخدمات المقدمة من باب الوقف على أعمال الخير ولا مانع من ذلك شرعاً فلا مستند شرعي لمن أنكر على فاعليها ومتى كان فعل الخير محلاً للإنكار؟ هذا من الجهل، فلا فرق بين توزيع المياه الباردة في المقابر أو في غيرها من بقاع الأرض، والبدعة هي الأمر المحدث في الدين وليس هذا منها، وكونه لم ينقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا عن صحابته من بعده لا يدل على أنه بدعة فكثير من الأمور المباحة في حياتنا لم تكن موجودة في العهد النبوي وما بعده، فواجب على كل إنسان أن يعرف الفرق بين البدعة والعادة الحسنة فمن سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة.
عمل مشكور
أما د. خالد بن عبدالله المزيني أستاذ الفقه المساعد بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن بالظهران فيشير أن الشريعة جاءت لتحقيق المصالح، ودرء المفاسد، سواء كانت دينية أو دنيوية، ويندرج تحت هذا المفهوم كل ما يحتاجه الناس من المباحات، ومن ذلك: توفير ما يحتاجه المشيعون والحاضرون لدفن الميت في المقبرة، على أن يكون ذلك عفوًا دون تكلف ولا تصنع ولا مباهاة، فمن العادات الحسنة توزيع ماء الشرب أثناء مراسم الدفن، وتوفير الكراسي لكبار السن، خصوصاً في أيام الصيف شديدة الحر، التي هي مظنة العطش المؤذي للناس، والعادة أنه يحضر كبار السن، والذين يعانون من الأمراض المؤدية إلى فرط العطش، كمرض السكري والكلى، والقادمون من أماكن بعيدة، وكثيراً ما يفد بعضهم من خارج المنطقة.
فهذا عمل مشكور، يرجى لفاعله الأجر عند الله تعالى، لما في ذلك من الإحسان والإرفاق، دون أن يترتب عليه مفسدة في الدين ولا في الدنيا، مع التنبه إلى عدم إهانة القبور، أو إلقاء عبوات الماء الفارغة على أرض المقبرة، فإذا اجتنبت هذه المفاسد فمثل هذا لا تمنعه الشريعة السمحة، بل قد أثنى الله على المحسنين على العموم، وذم الذين يمنعون الماعون والذي يُمنع شرعاً هو ما يُفعل على جهة التعبد عند القبور، كتوزيع الصدقة والطعام التماساً للبركة من الأموات، فهذا الذي ذهب إلى منعه شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، أو أن يأخذ هذا العمل مظهراً احتفالياً مقصوداً، بجلب الأطعمة والعصائر ونحوها، لأن في هذا خروجاً عن هيئة التشييع الشرعية، ومضاهاة للأعياد التي يقيمها المعظمون للقبور.
فهذا يُمنع، كما منعت الصلاة عند القبور، والجلوس والكتابة والتجصيص والبناء عليها، لأن المقبرة ليست موضعاً للتعبد ولا للتنزه، فأما منع التعبد فلأنه ذريعة للغلو في الأموات، وأما منع الترفه والتنزه فلأن النبي صلى الله عليه وسلم منع من زيارة القبور أول الأمر، ثم أذن في ذلك وعلل بأنها تذكِّر الآخرة، فالتوسع بإقامة المظاهر الاحتفالية في المقابر يخالف هذا المقصد، هذا فضلاً عن كونه يضاهي الأعياد التي ابتدعها المشركون عند القبور، والشريعة السمحة تتشوف إلى إبعاد المقابر عن مظاهر التكلف والتصنع والمباهاة فأما توزيع الماء لا بقصد تعظيم الميت، بل بقصد الإحسان إلى الناس في المقبرة، أو توفير المقاعد والتظليل من الشمس، أو توفير الإنارة المؤقتة لمن يدفن أثناء الليل، وغير ذلك من مظاهر الإحسان، فهذا فضلاً عن كونه لم يرد النهي عن شيءٍ منه أصلاً، هو من جنس العوائد المباحة أو المستحبة، لا من جنس البدع والمحدثات الممنوعة، والله تعالى أعلم.