حث الدين الإسلامي المسلم في جميع أحواله على بذل الخير والمعروف في آيات كثيرة وأحاديث نبوية متعددة، قال تعالى:﴿وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، وقال عليه الصلاة والسلام: «خير الناس أنفعهم للناس»، والصلح بين الناس باب عظيم من أبواب الخير الذي تتحقق به الرحمة والمودة بين الناس، ولا شك أن المسلم مطالب بهذا العمل المتمثل في السعي للإصلاح بين الناس.
وفي ظل تعاظم قضايا المجتمع المسلم وتعددها وتنوعها مع تحديات العصر وتشابك المصالح بين الناس، حدثت النزاعات ووقعت الخلافات بين الناس حتى بين الأهل والأقارب، ونرى الخصام بين الأقارب.. فما هو المطلوب من المسلم تجاه هذه النزاعات والخصام بين أولي القربى؟!
الأقارب.. أولًا
بداية يرى الشيخ القاضي سليمان بن عبد الله الماجد – عضو مجلس الشورى أن أي مجتمع لا يقوم ولا ينتج نفعاً في الدين والدنيا إلا في جو مؤتلف. ولهذا وقبل أن يباشر النبي مهام الدولة آخى بين المهاجرين والأنصار وحارب العصبية الجاهلية والفخر بالآباء حتى يعيش أهل المجتمع متحابين.
والأسرة والأرحام من أحوج الناس إلى هذا الجو المستقر المتآلف لماذا؟ لأن الوقت الذي يقضيه المرء مع أسرته وأقاربه – في الغالب – هو أكثر وقته؛ فإذا كان هذا المحيط متوترًا ملتهبًا مترقبًا متوجسًا مليئاً بالظنون السوداء والشكوك القاتمة فأي طمأنينة أو دفق مشاعر أو إنتاج يرجوها المرء في هذه البيئة المتوترة؟
القرابة موئل السكون والراحة والأمان من عوادي الحياة – بإذن الله – ففيها العون المادي عند الجوائح والكوارث، وفيها المؤانسة عند الأحزان، وفيها الرأي والنصح عند الملمات. ولهذا صار أثر صلة القرابة ظاهرًا في الصحة البدنية وطول العمر، وقد تحصل هذا بسلامة الصحة النفسية التي نتجت عن الطمأنينة والأمان، وفي تقرير هذا المعنى وبيان ذلك الأثر يقول ﷺ: «إن صلة الرحم محبة في الأهل، مثراة في المال، منسأة في الأثر» ونسأ الأثر: طول العمر.
وبناء عليه.. كان من أعظم المهمات إصلاح ذات البين بين أبناء المجتمع عموماً وبين القربات خصوصاً، ويكون ذلك بأمور منها:
أولًا: الحذر من أسباب الوحشة والقطيعة؛ بحفظ اللسان وأن يكون التبسط في الحدود التي يقبلها القريب؛ فرب كلمة أورثت عداوة، ولا سيما وأنت لا تقدر على تقييم نفسيات الناس ومدى تقبلهم أو تجاوزهم لأخطائنا؛ لأن بعض الناس إذا جرح شعوره لم ينس جارحه وفي مثله يقول الشاعر:
إن القلوب إذا تنافر ودها
مثل الزجاجة كسرها لا يُشعب
ثانيًا: معالجة المشكلات في حينها، والاعتذار من الأخطاء في وقتها، فإن أكثر ما يزعج الشخص في جليسه عدم شعوره بالأمان من كلمة نابية أو سخرية مرة؛ فإذا اعتذر كان ذلك عنواناً لطمأنته من أي خطأ آخر، وكان ذلك ترويضاً منه لنفسه من أي جموح قد يوجد في أي وقت.
ثالثًا: الصبر وتحمل أخطاء الآخرين، وإن زادت على حدها كان التنبيه بألطف عبارة، ولا يلجأ إلى التعنيف ما استطاع إلا عند تعذر العلاج بالسر والحسنى وأن يترك للزمن دوره: قال الله تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظ عَظِيمٍ﴾.
رابعًا: تمني الخير للناس وعدم حسدهم وعدم الاستماع للحساد، فإن هذا أجر وذخر في الآخرة وذكر وسيادة في الدنيا، وكثيراً ما يسمع بعض الناس مثلا لا يعرفون معناه: (الحسود لا يسود).
خامسًا: أن لا نتحدث عن خلافاتنا مع الناس فضلا عن القرابة، فإن هذا ليس شأن أصحاب النفوس الكبيرة، عدا ما فيه من توسيع هوة الخلاف وزيادة الضغينة، وقطع طرق الرجعة على المخالف وتحطيم جسور التلاقي.
سادسًا: السعي إلى إصلاح ما بين القرابة ولا سيما إذا ظهر وصار حديث المجالس.
سابعًا: بذل المال في محله والهدية فإنه مذهبة للضغينة.
ثامنًا: أن يحتسب الأجر العظيم في كل سبب للعداوة، قال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -: (صلوا أرحامكم والله إنه ليكون بين الرجل وبين أخيه الشيء ولو يعلم الذي بينه وبينه من داخل الرحم لأوزعه (لمنعه) ذلك عن انتهاكه).
وانظر إلى هذا المشهد المهيب والحوار العظيم بين رب العزة جل جلاله والرحم منذ الأزل وعند بزوغ فجر الخليقة: قال ﷺ: «خلق الله الخلق، فلما فرغ منه قامت الرحم، فقال: مه، قالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال: ألا ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى يا رب، قال: فذلك لك. ثم قال أبو هريرة: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾».
تاسعًا: أن يعلم القريب أن محك الاختبار في الصلة وتعظيم الرحم ليس في رد المعروف والمكافأة على الجميل والابتسامة في وقت السعة ودعوته إلى وليمة واجبة فقط فإن هذا سهل ميسر بل لا مندوحة منه إلا لمن رضى بالدنية، لكن غرفة الاختبار الحقيقية هي في المضايق وعند الخلافات وحول الكلمات الجارحة والنزاعات المالية فهنا تحدث حالات الفشل الذريع ويتساقط الناس فيخسرون الدنيا والآخرة، ولهذا قال ﷺ: «ليس الواصل بالمكافئ ولكنه الذي يصل من قطعه».
حسن التعامل مع الآخرين
يقول الدكتور سليمان بن صالح القرعاوي – أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة الملك فيصل بالأحساء: تتجلى في الإسلام أروع صور التعامل الحق بين الإنسان وأخيه الإنسان، عملاً بقول الرسول ﷺ: «اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن» وفي حديث آخر قوله ﷺ: «الدين المعاملة» والإسلام وهو يدعونا إلى حسن التعامل مع الآخرين، فإنه يرمي بذلك إلى جمع الكلمة ونبذ الخلاف، قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾. وقال الرسولﷺ: «المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم» وفي هذا دلالة أكيدة على توكيد حسن المعاملة بين الناس على حد سواء؛ لأن الإسلام دين المساواة، دين العدالة، دين لا يفضل فيه أحد على آخر إلا بالعمل الصالح والتقوى، دين لا يميز جنسًا من الأجناس وطبقة من الطبقات، أو سلالة من السلالات، دين يدعو إلى المساواة بين الأفراد، وقد أُرسل المصطفى – صلى الله عليه وسلم – إلى الناس جميعاً من غير تفرقة بينهم، قال جل شأنه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافةً لِّلنَّاسِ﴾، وروى الإمام أحمد في مسنده عن أبي نضرة، حدثني من سمع خطبة رسول الله ﷺ في وسط أيام التشريق فقال:«يا أيها الناس ألا ان ربكم واحد، وان أباكم واحد، ألا لأفضل لعربي على أعجمي، ولا أعجمي على عربي، ولا أحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى» وإذا نظرنا إلى الأخلاق الإسلامية نجدها عبارة عن منظومة متداخلة بعضها في بعض، فكل خلق يقوم عليه الخلق الآخر، فخلق الجود والكرم والبذل والعطاء والسخاء والإيثار حض عليها الإسلام، ودفع بالمسلم للتخلق بها، بل هي أخلاق من العرب التي جاء بها الإسلام فهذَّبها، وعندما أُسرت سفانة بنت حاتم طي قالت للرسول: (يا محمد إن رأيت أن تخلي عني ولا تُشمت بي أحياء العرب، فإني ابنة سيد قومي، وإن أبي كان يحمي الذمار ويفك العاني ويشبع الجائع ويكسو العاري ويُقري الضيف ويطعم الطعام ويفشي السلام، ولم يرد طالب حاجة قط، وأنا ابنة حاتم الطائي)، فقال النبي ﷺ: «يا جارية، هذه صفة المؤمنين حقا، لو كان أبوك مسلماً لترحمنا عليه، خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق، والله تعالى يحب مكارم الأخلاق». وفي هذا الصدد يتضح لنا بجلاء ووضوح حرص الإسلام على أن يعيش الناس في وئام ومحبة، وقد بذل الإسلام جهده في سبيل تنمية ذلك، وعدت من درجات الإحسان. ونحن في هذا العصر نجدنا بأمس الحاجة إلى حسن التعامل مع الآخرين أيًا كانوا.