جاء الإسلام ليحمل للإنسانية قيم المحبة والإحسان، قيم الرأفة والرحمة، حتى إن الله سبحانه جعلها الغاية من إرساله نبيه الكريم محمد عليه الصلاة والسلام في قوله عَزّ مِنْ قائل: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء107)، وقد تجلت هذه الرحمة في صور كثيرة، ولكنها تجلت أكثر ما تجلت في تشريع الوقف، الوقف الذي أقدم عليه المسلمون بأنفس ما يملكون، وأعزِّ ما يدَّخرون، يرجون ذُخْرَه وبِرَّه عند الله سبحانه، استجابة لقول الله تبارك وتعالى: : ﴿لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ (آل عمران92). ولقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: فيما أخرجه مسلم في صحيحه:«إذا مات الإنسان انقطع عمله إلاّ من ثلاثة؛ إلاّ من صدقةٍ جاريةٍ … ».
والوقف كما يعرفه العلماء: حبس مال يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه، بقطع التصرف في رقبته، وصرف ريعه إلى جهة بر، تقربًا إلى الله. ومن ثَمَّ فإن مجاله يتسع ليشمل كل أوجه الخير والنفع في حياة الأمة، كالفقراء وأبناء السبيل والمرابطين على الثغور والمدارس والمكتبات، والمشافي ودور العجزة والأرامل والأيتام، والرضع، والرفق بالحيوان… وقد قدم المسلمون في ذلك أروع الأمثلة منذ عصر الرسالة وإلى يومنا هذا وإن كانت وتيرته قد ضعفت في حياتهم بشكل كبير.
إن المسلمين اليوم وأكثر من أي وقت مضى بحاجة إلى إحياء ثقافة الوقف فيما بينهم، ليعالجوا بذلك أزماتهم الاجتماعية الخطيرة كالبطالة والعنوسة لعزوف الشباب عن الزواج بسبب عجزهم عن القيام بأعبائه المالية من مهر ونفقة ومأوى…
إن البطالة ظاهرة اجتماعية خطيرة، ولها من الآثار السلبية على حياة الفرد والمجتمع والأمة ما لا يمكن تجاهله. فمن جهة نخسر الطاقات الجسدية والعقلية لهذا الإنسان، والتي يمكن أن يكون لها دور كبير في بناء نهضة الأمة. ومن جهة أخرى يصبح هذا العاطل عن العمل عرضة للانحراف والاستغلال (من تسول وجريمة وعزلة عن الناس …) بسبب الظروف النفسية القاسية التي يعيشها (من حرمان وشعور بظلم أو إهمال أو إذلال). وكما قيل: كاد الفقر أن يكون كفرًا، وخصوصًا في ظل الظروف المعيشية الصعبة التي نعيشها، حيث ضغوطات الحياة تزداد يومًا بعد يوم، والغلاء يضرب بأطنابه كل مرافق الحياة.
ويمكن للوقف أن يسهم في علاج هذه الظاهرة من عدة نواح:
– فمن جهة يمكن للوقف أن يسهم في توظيفهم بما يقدمه من مشاريع وخدمات سواء في مجال الزراعة أو الصناعة أو التجارة أو الصحة أو التعليم أو إدارة وخدمة المكتبات فإذا لاحظنا أن بعض المدارس والجامعات والمشافي ودور العجزة والبساتين والمساجد والفنادق… وقف، علمنا مقدار ما يمكن أن يسهم به في تشغيل الأيدي العاملة.
– ومن جهة أخرى فإن الوقف يمكن أن يقدم لهم يد المعونة فيخفف من الحرمان الذي يلاقونه ويمنعهم بذلك من الانحراف أو الاستغلال من قبل تجار الجريمة ومحترفيها.
– ومن جهة ثالثة يمكن أن يسهم الوقف في معالجة هذه الظاهرة من خلال القروض التي يقدمها لمن لديه الخبرة وينقصه رأس المال أو من خلال المشاركة في المشاريع الاستثمارية، فهذا مدرس ناجح لديه مهارات في الإدارة يمكن أن نساعده بفتح مدرسة خاصة له فنفتح له ولغيره مجالًا للعمل، وذاك طبيب نلمس فيه النباهة واليقظة وقد تخرج ولم يتمكن بعد من الحصول على فرصة عمل، فيمكننا أن نساعده بفتح عيادة أو مستشفى له على أساس من المشاركة بمال الوقف … وهكذا.
وأما ظاهرة العنوسة وعزوف الشباب عن الزواج بسبب عجزهم عن القيام بدفع تكاليف الزواج من مهر وحفلة زفاف ومسكن للزوجين… فأيضًا من المشاكل الاجتماعية التي تواجه الأمة، ولها ما لها من الآثار الخطيرة (من تأثير على استقرار العائلة، وراحتها النفسية، ومن خوف على أبنائها من الانحراف عن الأخلاق السوية …).
وهذا الجانب أيضًا مما يمكن للوقف أن يسهم في معالجته بشكل كبير من خلال تقديم المعونة للشباب لتشجيعهم على الزواج، من خلال مساعدتهم في دفع المهر وتكاليف الزواج… ولا يخفى ما في ذلك من الأجر، إذ هو من باب الصدقات الجارية التي حثت الشريعة عليها، وقد كان هذا موجودًا عبر التاريخ الإسلامي فقد ذكر ابن بطوطة في رحلته الشهيرة أنه وجد في المغرب أوقاف لتزويج الفقيرات وأخرى لتزويج المكفوفين بل من المعلوم أن الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أمر بصرف أموال الخراج والزكاة التي قدمت إليه من إفريقيا في تزويج الشباب وإحصانهم.
واليوم نرى المملكة العربية السعودية تسهم مساهمة فاعلة في تقديم يد العون للشباب من الجنسين عن طريق معالجة البطالة والعنوسة.
فتوفر للشباب فرص عمل في العديد من المجالات، كما أنها تسعى جاهدة من خلال الإعلام الواعي والتثقيفي بضخ ثقافة عدم البزخ والتكاليف الباهظة في عملية الزواج، والتي قد تكون سببًا رئيسيًا في عزوف بعض الشباب عن الزواج.
وعلى الجانب الآخر تنمي مشروعات الوقف وتقدم لها التسهيلات اللازمة بما يعود على المجتمع بالنفع والاستقرار.
وفق الله العاملين المخلصين.