بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى
الحمد لله القائل: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فاتقوا الله عباد الله وراقبوه وافعلوا الخير تجدوه.
عباد الله: إن الأمة الإسلامية تستقبل هذه الأيام موسمًا من مواسم الخير العظيمة، الذي أنعم الله بها على الأمة الإسلامية وشرفها بها: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾. وقد خص الله هذا الموسم (موسم الصيام) بخصائص عديدة تدل على فضله وشرفه، من تلك الفضائل أن القرآن أنزل فيه: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ﴾، ومنها أن فيه ليلة القدر هي خير عند الله من ألف شهر: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾، ومنها أن الشياطين فيه تصفد، وأبواب الجنان فيه تفتح، وأبواب النيران فيه تغلق، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله تعالى عند كل فطر عتقاء من النار وذلك في كل ليلة» أخرجه الإمام أحمد وابن ماجه.
ومنها أن الله تعالى جعل للصائمين بابًا لا يدخله غيرهم، عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «للصائمين باب في الجنة يقال له: (الريان) لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخل آخرهم أغلق، ومن دخل منه شرب، ومن شرب لا يظمأ أبدًا» رواه الشيخان، ومنها استجابة دعاء الصائمين فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث دعوات مستجابات: دعوة الصائم ودعوة المظلوم ودعوة المسافر» أخرجه البيهقي وغيره. ومنها أن الصيام جنة يستجن بها العبد من النار، قال صلى الله عليه وسلم: «الصيام جنة يستجن بها العبد من النار» رواه أحمد والبيهقي. ومنها أن الله اختص بعبادة الصيام دون غيرها، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به» أخرجه الشيخان إلى غير ذلك من الفضائل التي يطول المقام عن حصرها واستقصائها.
معاشر المسلمين: وقبل أن نتذكر أقسام الناس في شهر الصيام، ينبغي أن نقف وقفة سائل ومجيب فيقال: كنا في العام الماضي في مثل هذه الأيام نرقب شهر الصيام ونتحراه ثم ماذا؟ عام كامل بأيامه ولياليه قد قوض خيامه وطوى بساطه وشد رحاله، بما قدمنا فيه خيرًا أو شرًا، وصدق الله ومن أصدق من الله قيلًا، ومن أصدق من الله حديثًا: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ﴾، ﴿يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾، وقال صلى الله عليه وسلم: «لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن عمله ماذا فعل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه».
فيا معشر المسلمين: إن معشار الثانية التي تذهب من أعمارنا لن تعود ولو أنفقنا ما بين أيدينا وما خلفنا، فلم التفريط؟ ولم التسويف في أعمال الخير؟ فلنحمد الله الذي بلغنا شهر رمضان وليشد بعضنا عضد بعض، فمن كان منا مقصرًا تعاهدناه بالنصح، ومن كان محافظًا زدناه ثباتًا بعد تثبيت الله له، وبما أننا في مطلع شهر جديد فليرقب كل منا نفسه خاصة، ويطوي صفحة ماضية، إن كانت خيرًا ازداد من الخير وإن كانت غير ذلك بدلها إلى أحسن منها.
ووقفة أخرى أيضًا، كان معنا في شهر الصيام الماضي أناس شاركونا في الصيام والقيام والقراءة والدعاء، ثم ماذا كان شأنهم؟ منهم من فارق هذه الحياة وهو الآن تحت طبقات الثرى، وقسم من يرقد الآن على فراش المرض لا يستطيع صيامًا ولا قيامًا، ونحن لا نزال نتمتع بوافر الصحة والعافية، فلله الحمد من قبل ومن بعد، وبعد هذا يقال: ينقسم الناس في شهر رمضان إلى أقسام:
1-فمنهم قسم ينتظر هذا الشهر بفارغ الصبر وتزداد فرحته بوصوله، فيشمر عن ساعد الجد ويجتهد في شتى أنواع العبادة، من صوم وصلاة وصدقة وذكر وغير ذلك، وهذا خير الأقسام، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل عليه السلام يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ يعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، فإذا لقيه جبريل عليه السلام، كان أجود بالخير من الريح المرسلة) رواه البخاري.
2- ومن الناس قسم يدخلُ عليه شهر رمضان ويخرج وهو على ما كان عليه قبل رمضان، فلم يتأثر من شهر الصيام ولم يزدد رغبة في الخيرات والمسارعة إليها، وهذا ممن فوّت على نفسه غنيمة لا تقدر بثمن، إذ إن المسلم الحريص يزداد حرصه في الأوقات التي يكثر فيها الخير والثواب.
3- ومن الناس قسم لا يعرف الله إلا في رمضان، فإذا جاء رمضان رأيتهم ركعًا سجدًا، فإذا انسلخ رمضان ولوا على أدبارهم نفورًا وعادوا إلى ما كانوا عليهم من المعاصي والآثام، وأولئك القوم ذكرهم الإمام أحمد والفضيل بن عياض فقالا: (بئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان)، ومن كان من أولئك فقد خادع نفسه، وظفر الشيطان منه بشيء كثير: ﴿الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَىٰ لَهُمْ﴾، وإلى هؤلاء القوم نخاطبهم جميعًا مرغبين لهم ومرهبين، مرغبين لهم أن يتوبوا إلى الله توبة نصوحًا، ويستغلوا هذا الموسم للإنابة والإخبات إلى ربهم، والاستغفار والإقلاع عما سلف منهم قال تعالى: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ﴾، وقال: ﴿إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾، فإذا علم منهم الصدق والإخلاص تجاوز عنهم كما وعدهم والله لا يخلف الميعاد، أما إذا أصروا على ذلك فنرهبهم من فعلهم وأنهم على خطر أعظم من الاستهانة بفرائض الله وحدوده وأوامره ونواهيه.
4-ومن الناس قسم يصوم بطنه عن المطعومات ولا يلتفت إلى ما سوى ذلك، فتراه أبعد الناس عن الأكل والشرب في رمضان، لكن لا يجد حرجًا في سماع المنكرات والغيبة والنميمة والسخرية، بل هذا ديدنه في رمضان وغيره، وإلى هؤلاء يقال: اعلموا أن المعاصي محرمة في رمضان وغيره لكن تزداد حرمتها في رمضان، على قول بعض أهل العلم، ولتعلموا أنكم بفعلكم ذلك قد جرحتم صيامكم وفرطتم في أجر كبير، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله عز وجل حاجة في أن يدع طعامه وشرابه»، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس الصيام من الأكل والشرب، إنما الصيام من اللغو والرفث» رواه ابن حبان.
5-ومن الناس قسم جعل نهار الصيام رقادًا وليله سمرًا ولهوًا، فلا هو استغل نهاره بالذكر والخير، ولا هو نزه ليله عن المحرمات، إلى هؤلاء يقال، اتقوا الله في أنفسكم ولا تفرطوا في خير وصل إليكم وأنتم في رخاء ورغد من العيش، وتوبوا إلى الله توبة نصوحًا وأبشر من الله بما يسركم.
6-ومن الناس قسم لا يعرف الله في رمضان ولا في غيره، وهذا شر الأقسام وأخبثها وأخطرها، فتراه لا يلقي بالًا لصلاة أو صيام، ويترك ذلك عمدًا مع وفور الصحة والعافية، ويدعي بعد ذلك أنه من أهل الإسلام، والإسلام منه بُعد المشرقين، وأهل الإسلام منه براء، وإلى هؤلاء يقالوا: بادروا بالتوبة وارجعوا إلى دينكم، واطووا صفحة مظلمة من حياتكم، فإن ربكم رحيم لمن أطاعه شديد العقاب على من عصاه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بالآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، والذي أخرج المرعى، الحمد لله الذي أعطى من شاء بفضله ومنع من شاء بعدله ولا يظلم ربك أحدًا.
معاشر المسلمين: إن للصيام واجبات وآدابًا، ينبغي للمسلم الحريص على مرضاة الله تعالى الإحاطة بها، ليكمل له صومه ويتم بذلك أجره، فأول شيء يُذكر أن يبتغي المسلم بصيامه وجه الله تبارك وتعالى مؤمنًا محتسبًا، قال صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه» رواه الشيخان، وفي رواية عند أحمد وغيره: «غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر». وعليه قبل ذلك أن يبيت النية للصيام لقوله صلى الله عليه وسلم: «من لم يبيت الصيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له»، وفي لفظ آخر عند النسائي: «من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له»، وعلى المسلم أيضًا أن لا يفرط في السحور ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، ففيه خير كثير وجزاء وفير، فإن تركه فقد حرم نفسه الأجر الجزيل، أخرج الشيخان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «تسحروا فإن في السحور بركة»، وقال صلى الله عليه وسلم: «السحور كله بركة فلا تدعوه ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين»، وقال رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتسحر: «إنها بركة أعطاكم الله إياها فلا تدعوها»، وقال صلى الله عليه وسلم: «البركة في ثلاثة: الجماعة والثريد والسحور».
ومنه فضل السحور أيضًا أنه فرق ما بين صوم المسلمين وصوم أهل الكتاب، قال صلى الله عليه وسلم: «فصل ما بين صيامنا صيام أهل الكتاب أكلة السحر»، وإذا علم ذلك فإن فضل السحور يتأكد في تأخيره، وفي ذلك خير كثير، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم: يؤخر سحوره، فعن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه قال: تسحرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم قام إلى الصلاة، قال زيد: قدر خمسين آية.
ويزداد السحور فضلًا إذا كان على تمر، أو معه تمر لقوله صلى الله عليه وسلم: «نعم سحور المؤمن التمر» أخرجه أبو داود وغيره.
وإذا ما أتم المسلم سحوره فعليه أن يتأهب لصلاة الفجر، ولا يفرط كما يفعله بعض من يتسحر ثم ينام عن صلاة الفجر، وحسبكم بها من مصيبة وتفريط خاصة إذا كان ممن يسهر طوال الليل.
عباد الله: يضاف إلى ما سبق أيضًا أنه ينبغي على المسلم أن يستغل وقت صيامه بالخير بكل أنواعه، من قرآن واستغفار وغيره، فإذا قرب موعد إفطاره فعليه أن يتذكر سننًا كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعلها، فمنها تعجيل الفطر، أخرج الشيخان عن سهل بن سعد رضي الله عنه مرفوعًا: «لا يزال الدين ظاهرًا ما عجل الناس الفطر لأن اليهود والنصارى يؤخرون».
ومن السنة أن يفطر المسلم على تمر، فإن لم يجد فعلى ماء، فعن سلمان بن عامر الضبي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر فإنه بركة، فإن لم يجد تمرًا فالماء فإنه طهور» أخرجه أحمد وأهل السنن.
وللبداءة بالتمر سر عجيب، فقد ذكر بعض أهل الطب أن الأمعاء تمتص المواد السكرية الذائبة في أقل من خمس دقائق؛ فيرتوي الجسم وتزول أعراض السكر والماء فيه، لأن سكر الدم ينخفض في أثناء الصوم، فيؤدي إلى الشعور بالجوع وإلى بعض التوترات أحيانًا، وهذا سرعان ما يزول بتناول المواد السكرية.
وقال آخر: وأما الماء – أي الإفطار على الماء – فإن الجسم يحصل له بالصوم نوع من اليبس فإذا رطب بالماء كمل انتفاعه بالغذاء.
ومن السنة أيضًا أن يدعو الصائم عند إفطاره فقد ورد الترغيب في ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ثلاث لا ترد دعوتهم: الصائم حين يفطر، والإمام العادل والمظلوم»، وقال صلى الله عليه وسلم أيضًا: «ثلاث دعوات مستجابات: دعوة الصائم ودعوة المظلوم ودعوة المسافر»، وقال أيضًا: «ثلاث دعوات لا ترد: دعوة الوالد لولده، ودعوة الصائم ودعوة المسافر».
ومن السنة أيضًا أن يدعو الصائم عند فطره بالدعاء المأثور عنه صلى الله عليه وسلم، فقد كان يقول إذا أفطر: «ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله»، وليحرص المسلم أن يفطر معه غيره أيضًا فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من فطر صائمًا أو جهز غازيًا فله مثل أجره»، وقال: «من فطر صائمًا كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئًا».
فلنحرص عباد الله جميعًا على المسارعة إلى الخيرات فإن سلعة الله غالية. نسأل الله أن يجعلنا وإخواننا المسلمين ممن صام رمضان وقامه إيمانًا واحتسابًا، وأن يجعل خير أعمالنا خواتيهما وخير أيامنا يوم لقاك.
اللهم اجعل هذا الشهر شهر خير وبركة للإسلام والمسلمين حكامًا ومحكومين، اللهم ارفع البأساء والضراء عن المسلمين، اللهم وفقنا لصالح القول والعمل في السر والعلن، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الصحب والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم انصر عبادك وأولياءك المتقين، اللهم وفق كلمة المسلمين إلى ما فيه الخير والصلاح، وأجمع كلمة قادة المسلمين على الخير والهدى والرشاد.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون. فاذكروا الله يذكركم واشكروه على آلائه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.