تضمن القرآن أنماطًا من القصص وتميزت القصة القرآنية بنهج خاص، فالقصص القرآني كما يقول الشاطبي: لا يراد بها سرد تاريخ الأمم والأنبياء والأشخاص، وإنما قصده منها عظة وعبرة، وبيان أحكامٍ يرى فيها بعض المجتهدين (أن شرع من قبلنا شرع لنا) إلا ما نسخه القرآن أو شرع خلافه. وقد ذكر القرآن لنا بعض أهدافه ومراميه والحكمة التي يقصدها: ﴿وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ۚ وَجَاءَكَ فِي هَٰذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (1).
لذا جاءت القصة القرآنية في سور متعددة، تحققت بها أغراض خاصة في كل سورة وردت فيها، إلَّا ما ورد استثناء في قصة يوسف عليه السلام التي وردت كاملة متكاملة غير منقوصة في سورة سميت باسمه عليه السلام، أما بقية قصص الأنبياء فقد وردت مجزأة في مواضع مختلفة من السور لتحقق العبرة والعظة التي سيقت من أجلها في تلك المواضع، وفي ذلك حكمة ربانية قد نعلمها أو لا نعلمها، وقصور علمنا البشري عن إدراك ذلك يجعلنا في حيرة، بل ليقول الذين في قلوبهم مرض ماذا أراد الله بهذا مثلاً من هذا القصص، فنقرأ من سورة الذاريات : ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ . إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا ۖ قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ . فَرَاغَ إِلَىٰ أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ﴾ (2) ونقرأ في سورة هود : ﴿وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَىٰ قَالُوا سَلَامًا ۖ قَالَ سَلَامٌ ۖ فَمَا لَبِثَ أَن جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ﴾ (3) وهلم جرًّا من الآيات التي تقص طرفًا من القصة.
وقد راح بعض المفسرين في جمع المواقف القصصية في قصة واحدة، وكون منها جميعًا قصة واحدة، وكثيرًا ما يُدْخِل إليها بعض الإسرائيليات، ليُكَوِّنَ منها قصة ومسلسلًا عجيبًا تجد فيه العجب العجاب الذي تطير منه الألباب، وعلموا أن هذا القصص ليس للتسلية والتاريخ إنما هو للعبر والاتعاظ وللتنبيه على سنن الله في الاجتماع البشري وبيان مآل الأقوام حين تحيد عن منهاج الله وتسلك سبيل الظلم والضلال.
وما علموا أن الذي أضافوه من الغث والسمين يضر ولا ينفع وكأنهم يرون نوعًا من الاستدراك على القرآن وإكمالًا للقصة، وفي هذا وذاك قصور في النظر في محتوى القصص القرآني، لأن الله سبحانه وتعالى حين قصّ علينا أحسن القصص بالنص الذي وردت به في القرآن استوفى الفائدة المرجوة من القصة على الصورة التي وردت من غير زيادة ولا نقص، ولو كان شيءٌ يفيد في زيادة أكثر مما هو مذكور لقَصَّهُ لنا، فمثلًا حين قصّ علينا أهل الكهف لم يذكر لنا أسماءهم ولا وصف حالهم في نومهم ويقظتهم، ولا اسم الملك الظالم في زمنهم، ولا اسم كلبهم، ولا مكان كهفهم الذي نزلوا فيه، وإنه وإن كانت النفوس تتشوق لمثل ذلك حسب غريزة حب الاستطلاع، فإن القصص لم يسق لتحقيق ذلك، ولو كان ذكر ذلك مقصودًا لذكره الله لنا، فإن الله ينزه عن ترك ذكر شيء ينفعنا علمه، بل هو كما قال المفسرون: (هو شيء لا ينفعنا ذكره ولا يضرنا جهله، ولو كان ينفعنا أو يضرنا لذكره الله لنا)(4).
وإنما كان المفسرون لا يرون كبير بأس في التوسع في ذكر هذه القصص، لأنها لا تتعلق بعقائد أو أحكام، ولكنها من قبيل الاعتبار والعظة، وغرس فضائل الأعمال. قال الإمام أحمد بن حنبل: (إذا روينا في الحلال والحرام شددنا، وإذا روينا في الفضائل ونحوها تساهلنا) (5)، فبالأحرى القصص.
وممن توسع في إيراد القصص في التفسير أحمد بن محمد إبراهيم الثعالبي النيسابوري المتوفى سنة سبع وعشرين وأربعمائة صاحب “التفسير الكبير”، وكذلك عبدالله بن عمرو الذي أصاب جملة من كتب أهل الكتاب، وأدمن النظر فيها، ورأى فيها عجائب، ووردت عنه أشياء تتعلق بالقصص وأخبار الفتن والآخرة (6).
ثم ولع بعض المفسرين المتأخرين بالغرائب والتفصيلات في القصص التي لا طائل تحتها، فأوقعهم ذلك في كثير من المحاذير، حتى صعب على بعض الناس التفريق بين فهم هؤلاء المفسرين للقرآن وقصصه، وبين النص القرآني نفسه، وأوضح ما كان ذلك في القصص الإسرائيلي حول الأنبياء وحياتهم. والضابط في ذلك كله الصدق وتحري الحقيقة، وتواتر الإسرائيليات وعدل الرُّواة، ولعل في تفسير الخازن خير شاهد على ذلك.
ومن روائع القصص القرآني: قصة موسى عليه السلام مع فرعون وهامان، وموقف الرجل المؤمن الذي وقف يدافع عن موسى عليه السلام لتقرير وحدانية الله، وإثبات ربوبيته وسلطانه، فقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ . إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ . فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْحَقِّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ ۚ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ . وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ۖ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ . وَقَالَ مُوسَىٰ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ . وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ ۖ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ ۖ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ . يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِن جَاءَنَا ۚ قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ . وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ. مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ ۚ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ . وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ . يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ۗ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ (7).
يتبدى الإيجاز والإعجاز في قوله تعالى:” فقالوا سحر مبين”.
فالقائلون هم من أرسل الله موسى عليه السلام إليهم، وقوله “سحر مبين” أي: ما جئت به يا موسى من معجزات هي عندنا سحر ظاهر، ويكشف ذلك عن عجز فرعون وحاشيته عن تفسير المعجزة ونسبتها إلى الخالق العزيز الحكيم.
وكل آية تبدأ بالفعل” قال ” تمثل نقلة في النظم القرآني للقصة، كما تمثل لموقف جديد، ويترتب على تسلسل المواقف حركة هي الغاية العليا من القصّ الموجز الذي ينتقل بالمستمع من مشهد إلى مشهد كما يتضح ربط الأحداث الجارية في عصر موسى بما سيق من أحداث لتكون النهاية واحدة وهي الدمار للمستكبرين والطواغيت في كل العصور.
إن انتصار الخير على الشر والعقل على الجهل والإيمان على الكفر- هي المحاورة الرئيسة للقصص القرآني بعامة، وقصص الأنبياء والرسل خاصة، والضابط لهذه القصص هو وعد الله لأنبيائه ورسله وللمؤمنين بالنصر والغلبة على قوى الكفر والظلم ووعده لهم بخلافة الأرض، قال تعالى: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾ (8)، وقال: ﴿أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ﴾ (9).
والله الهادي إلى سواء الصراط.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مصادر المقال:
(1) سورة هود: آية 120.
(2) سورة الذاريات: الآيات 24 : 26.
(3) سورة هود: الآية 69.
(4) جامع البيان في تأويل آي القرآن للطبري 7/135.
(5) القول المسدد في الذب عن المسند للإمام أحمد لابن حجر العسقلاني ص11.
(6) تذكرة الحفاظ 1/41.
(7) سورة غافر (23-33).
(8) المجادلة الآية 21.
(9) الروم الآية 62.