يحمل الدعاة أمانة نشر الإسلام في كل أرجاء المعمورة، وتوضيح معالمه لكل بني البشر، لقوله تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (سورة آل عمران، آية 104).
وتتعدد مهام هؤلاء الدعاة وتتنوع بقدر ما يقومون به من جهد وما يواجهونه من أطياف، وقد نظر القرآن الكريم إلى اختلاف المدعوين في الفهم والتلقي، فراعى هذا الأمر، وأمر رسوله ﷺ بضرورة لين الجانب فقال سبحانه: ﴿وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ (سورة آل عمران، آية 159).
إننا بهذا نرد على من اعتقد أن قصور منهج الإسلام في تأدية الغرض المراد منه ناشئ عن كونه غير مبسط أو موضح، أو أن الكتب التي وضعت في هذا الإطار بها عيب أو نقص، وغير ذلك من الأسباب المطروحة، ولكن هذا ليس بصحيح، فالعيب قد يكون بسبب من نستقي منهم أمور الإسلام وأحكامه، وهذا يعود إلى بعض من نصّبوا أنفسهم للفتيا مع جهلهم بأحكام الدين.
كذلك نجد في الواقع بعض الدعاة في مجتمعنا اليوم يطبقون الإسلام قولًا وسلوكًا، ولا يمكن التقليل من شأنهم، أو إنكار فضلهم، ولكنهم قلة أمام جموع كثيرة لا يبالون بالإسلام وأحكامه في أفعالهم، فنجدهم على المنابر يهزونها وهم في ذروة الانفعال ينهون الناس عن الصغائر والكبائر من الأمور المنهي عنها والمحرمة، ويأمرونهم بالمعروف قليله وكثيره، ولكن واقعهم يكذِّب هذا الانفعال ويبطل مفعوله، فهم قد غرقوا فيما حرموا على غيرهم فعله، ومن هؤلاء من يدعو إلى الصدقة وعمل البر والإحسان وهو لا يفعل شيئًا من هذا، بل تجده إذا وجد شيئًا بسيطًا فيه نفع مادي له تكالب عليه، وتشاحن وتقاتل بما يعبر عن حرص دائم وطمع لا ينقطع ورغبة في الاستحواذ على الأشياء المادية الدنيوية، وبما يمكن أن يطلق عليه شخص أناني يتمركز حول ذاته بدلًا من أن يكون متصفًا بالإيثار، وصدق الله ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ (سورة الصف، آية 3). وهكذا نلحظ ضرورة اتصاف الداعية بمطابقة القول مع العمل، يضاف إلى ذلك ما ينبغي أن يتصف به الداعية من الاتزان الانفعالي ونقل الأفكار بمعالجة موضوعية.
قال الخليفة المأمون: “نحن أحوج ما نكون إلى عالم يدعونا بفعله قبل علمه”.
فالمجتمع في حاجة إلى داعية بارع وعالم عامل، فعلاج المشاكل الاجتماعية والأخلاقية والفكرية، وغيرها وظيفة لكل من يتصدى للدعوة، وليكن منهجه في علاج القضايا النقد البناء والتكرار والتأكيد على الفكرة التي يدعو إليها بطرق متنوعة وبأسلوب رصين وسلوك إيماني قويم.
كما ينبغي أن يكون الداعية لين الجانب، رابط الجأش، متريث في حكمه، متلطف في نقده، حسن في شرحه، شيق في عرضه، جيد في أدائه فذلك شيء معروف في سيرة الأنبياء والمرسلين.
يقول الله تعالى لنبيه محمد ﷺ: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾(سورة النحل، آية 125)، وقد كان فرعون قاسيًا شديدًا مع قومه متغطرسًا بفكره وقوته، لكن ومع هذا التأله الذي ينبغي أن يقاوم بالجبروت، قال الله تعالى لموسى وأخيه عليهما السلام: ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ﴾ (سورة طه، آية44).
وبالإضافة إلى ذلك، فإن قوة الإيمان وبُعد النظر وسمو الفكرة وصدق الإرادة تجعل الداعية لا ينظر إلى الدعوة أنها عبء ثقيل ينبغي التفلت منه كلما سنحت له الفرصة، بل يجب أن يزيده هذا الأمر إصرارًا على التحمل والصبر على كل ما يواجهه.
وليتأمل قول الله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾. (سورة لقمان آية 17).
وفوق ذلك كله هناك وسائل دعوية قد يغفل الداعية عنها مع يسرها، وعدم الكلفة فيها والاقتدار عليها.
فحين يكون الحديث عن وسائل الدعوة لابد من الإشارة إلى أهمية التجديد في وسائلها بشكل عام، ولابد من القناعة أن ما صلح لزمن ما قد لا يكون بالضرورة هو الأصلح لزمان أو مكان آخرين، فحسن تعامل الموظف مع المراجعين، وتيسير أمورهم أسلوب من أساليب الدعوة -إذا أحسن الموظف تقديمه وتوظيفه- والسماحة في البيع والشراء، والنصح وعدم الغش أو المغالاة في السعر أسلوب في الدعوة يملك به الباعة قلوب المشترين، لاسيما إذا قدموه على أنه جزء من تعاليم الإسلام وهديه، والمعلم المخلص في رسالته التعليمية، المدرك لدوره التربوي، المنصف لطلابه، المتأدب الخلوق مع زملائه، هو أحد الدعاة إلى الله -وإن لم يتسم بذلك فلا عبرة بالمسميات- ولكنها الوسائل النافعة ورصيد الأخلاقيات.
والمرأة المحتشمة في لباسها والهادئة في طبعها، وتعاملها، والمبتسمة في وجه صويحباتها والمعرضة عن ما لا يعنيها والداعية للخير بسلوكياتها، كل ذلك له عمله وتأثيره الإيجابي في نفوس الأخريات، ويمكن أن يقال إن من أساليب الدعوة إلى دين الله ما يقوم به المسلم من إسعاف مريض، أو نقل مصاب، أو إعانة متعطل في البراري أو الطرق السريعة -وقد يكون أحوج ما يكون لمساعدتك ووقوفك إلى جانبه- ومواقف المعروف والإحسان تبلغ -أحيانًا- مبلغها، وتؤثر أثرها في الآخرين، وقد نشعر بذلك وقد لا نشعر… إلى غير ذلك من الوسائل التي قد لا نقدرها حق قدرها، وقد تبلغ في آثارها مبلغًا عظيمًا، والمهم أن تقدر كل موقف، وتحتسب على الله كل حركة، وتخلص النية وتحسن القصد، وتوظف ذلك في الدعوة لدين الله.
وقد كان المعلم الأول محمد بن عبد الله رسول الله ﷺ يحتسب في نظرته وابتسامته ومزاحه، فضلًا عن جده وأمره ونهيه، ولكم في رسول الله أسوة حسنة.
إن من الخطأ أن نقصر الدعـوة على وسائل محددة، أو نخص بها صنفًا من الناس، لا نجاوزها إلى غيرهم، ففي ذلك غمط لحقوق الآخرين، وتحجير لواسع.
وإذا عُدَّتْ وسائل الدعوة فينبغي أن تشمل كل جهد خير نفع الله بجهد صاحبه الإسلام والمسلمين، وينبغي أن يتسع مفهوم الدعاة لكل داعية إلى الخير، مهما كان موقعه وأيًّا كانت وسيلته، مادامت في إطار الشرع الحنيف.
ولربما غاب عن أنظار الناس أشعث أغبر، لو أقسم على الله لأبره، ولكنه معدود عند الله في طليعة الذين يأمرون بالقسط من الناس، وكم في ميدان الدعوة من جنود مجهولين وهم من الأخفياء الأتقياء.
وفق الله كل داعية خير إلى طريق الرشاد والصواب والسلام عليكم.