اتصل بنا
الابتــــــــــلاء.. محنة أم منحة؟!
09/11/2009

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فقد أكرم الله الإنسان، فخلقه بيديه، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وفضله على كثير ممن خلق، وأعطاه نعمة العقل، وزوده بنور الفطرة، وجعل خلقته قابله للتكليف، إن فعل الخير أثيب، وإن فعل الشعر عوقب، وهذا هو مقتضى حمل الأمانة التي قبلها الإنسان، وأبت السماوات والأرض أن يحملنها، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا

لقد جعل الله للإنسان هذه الحياة الدنيا دارًا أولى يحيا فيها، ويعمرها ليستعين بذلك على عبادة ربه طاعة ومحبة وإخلاصًا، ثم ابتلاه بالتكاليف (الأوامر والنواهي) ليمحصه رحمة منه وفضلًا.

قد يظن بعض الناس أن ابتلاء الإنسان بالسراء هو إكرام له لا اختبار طاعة، ويرى الابتلاء بالضراء هو انتقام هوان أو إهانة، وقد نص القرآن الكريم على هذا الصنف من الناس، ذلك الاعتقاد الباطل ونفاه نفيًا حاسمًا، يقول الله تعالى: ﴿فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ. وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ. 

 وقد صحح القرآن الكريم هذا الفهم السيء في الآيات التي تتلو ذلك مباشرة وأعاد توجيه الأفهام إلى الممارسات الخاطئة الناتجة عن هذا الفهم السيء لحكمة الابتلاء، وهذه الممارسة الخاطئة هي عدم إكرام اليتيم وعدم الحض على إطعام المسكين، والاستئثار بالمال ولمه وجمعه دون الإنفاق كما أمر الله، فقال تعالى: ﴿كَلَّا ۖ بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ . وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ . وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا. وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا. والأمثال في هذا المجال كثيرة في القرآن مثل ما جاء في سورة الشمس والبلد والضحى، والحقيقة هي أن الله عز وجل يبتلي العباد تارة بالمسار ليشكروا، وتارة بالمضار ليصبروا، فتصير المنحة والمحنة جميعًا ابتلاء، فالمنحة تقتضي الشكر، والمحنة تقتضي الصبر، يقول الله تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ.

إن هذا الإنسان المكرم لم يخلق عبثًا ولن يترك سدى، يقول الله عز وجل: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ، ويقول سبحانه ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى، ومن ثم فهو محاسب على ما قدمت يداه إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ.وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ، وقد أخبرنا المصطفى صلى الله عليه وسلم عن حدود هذه المسؤولية ومجالاتها عندما قال: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيمَ أفناه، وعن علمه ما عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه، وعن جسمه فيمَ أبلاه».

عباد الله: إن الابتلاء وسيلة مهمة من وسائل التدريب العملي على ممارسة ما يعرف بالأخلاق العملية على أرض الواقع، ومن ثم فإنه يصقل الإنسان ويضبط انفعالاته، فهو محك يكشف عما في القلوب وهو وسيلة لاختبار رد فعل الإنسان وقدرته على التكيف مع المواقف المختلفة التي يمر بها في حياته، ومن المعروف أن هذه المواقف تختلف نوعًا وكمًا، كما تختلف باختلاف الأشخاص والأعمار والأماكن، وقوة الضغوط واستمراريتها، وهنا يكتسب بالابتلاء خبرة وتجربة ما كانت لتحدث لولا هذا الابتلاء، وليس من النادر أن يكسبه ذلك نوعًا من الحكمة يتأسى بها طول حياته، كما أن فيه صقلًا للطبع وتهذيبًا للعاطفة وتنمية لحب الخير.

إن المرء يعيش جميع لحظات حياته في حالة ابتلاء، إما بالخير وإما بالشر، إما بالطاعة وإما بالمعصية، لذا كان علينا أن نبين مظاهر الابتلاء.

أيها المسلمون: إن مظاهر الابتلاء تقوم على التالي:

1- الابتلاء بالضراء أو الشر: وهو الذي يُراد بالابتلاء أو الفتنة عند الإطلاق، وقد تخفى حكمة هذا النوع على الكثيرين، إذ قد يُراد به اختبار الصدق في الإيمان والصبر على الجهاد في سبيل الله، قال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ، وقد أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم أن جزاء الصابرين على الابتلاء بالضراء هو الجنة، فقال عليه الصلاة والسلام «يقول المولى عز وجل: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته عنهما الجنة» يريد عينيه.  

2- الابتلاء بالمعاصي أو السيئات: وهذا المظهر لا يقل عن سابقيه من حيث خطره وتأثيره في حياة الأمم أو الأفراد، وقد كان آدم أبو البشر هو أول من تعرض لهذا النوع من الابتلاء، عندما أكل من الشجرة التي نهاه الله عنها، وقد سجل القرآن الكريم هذه الواقعة في قوله سبحانه: ﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ . فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ۖ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ.

3- الابتلاء بالسراء أو الخير: يُبتلى الإنسان على المستوى الشخصي بالنعماء أو الخير فتنةً وتمحيصًا، وذلك بأن يعطيه الله المال والجاه والعافية والمنصب والأولاد ونحو ذلك، وهذا المظهر من أهم مظاهر الابتلاء، نظرًا لما يعقبه من شكر للنعمة أو كفر بها، قال الله تعالى فيما يقصه القرآن عن سيدنا سليمان: ﴿قَالَ هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ۖ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ

4- الابتلاء بالطاعات: كما يبتلى الإنسان بالمعصية لتتاح له فرصة التوبة والاستغفار ونحو ذلك، فإنه يبتلى أيضًا بالطاعات ليشكر ربه على ما هداه إليه، وإلى هذا أشارت الآيات الكريمة: ﴿وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ.إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ وبالتمعن في هذه المظاهر الأربعة للابتلاء فإنه يمكن إرجاعها إلى مظهرين اثنين:

الأول: ابتلاء التكليف، ويشمل الابتلاء بالحسنات أو السيئات، بالطاعات أو المعاصي. يقول الله تعالى: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا . إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا.

والثاني: ابتلاء الفتنة ويشمل: الابتلاء بالسراء أو الضراء، يقول الله تعالى في هذا النوع: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية

الحمد لله حمد الشاكرين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

للابتلاء دور عظيم في تربية النفوس وتدريبها على تحمل المشاق، وتهيئتها لمواجهة أي ظرف طارئ أو محتمل، كما أن فيها تدريبًا للقوى العقلية والذهنية وتوجيهًا لها كي تسير على المنهج السوي الذي يحقق الغاية المرجوة منها، كما أن في ذلك حماية لها من الزيغ والانحراف.

وسنذكر أهم الثمار التربوية لعملية الابتلاء:

1- الابتلاءُ تربيةٌ بالخبرة:

إن المبتلى بالذنوب أو بالضراء يصبح لديه من الخبرة ما يمكنه من معالجة ذلك مستقبلاً معالجة صحيحة.

يقول ابن القيم: المبتلى بالذنب يصبح كالطبيب المجرب الذي عرف المرض مباشرة ومن ثم فهو يعرف كيف يعالجه علاجًا صحيحًا.

2- التدريب على الحذر وأخذ الحيطة.

من فوائد الابتلاء كما يقول ابن القيم تحرز المُبتلى من مصائد العدو ومكامنه ومعرفة من أين يدخل عليه اللصوص وقطاع الطرق، وأين تقع مكامنهم ومن أين يخرجون عليه وهو بهذه المعرفة قد استعد لهم.

3- اكتساب القوة والشجاعة في مواجهة الأعداء:

إن التخلص من داء الغفلة يؤدي إلى استجماع القوى والتشجع لمحاربة العدو من شياطين الإنس والجن، فقد ينشغل الإنسان عن عدوه اللدود وهو الشيطان والنفس الأمارة بالسوء وبطانة الشر فإذا أصابه منهم سهم استجمع قوته وحميته، وطالب بثأره إن كان قلبه حرًّا كريمًا.

4- المعرفة المباشرة بأمراض النفس وكيفية علاجها:

كما أن للابتلاء أثره الفعال في مقاومة آفات الجسد والتغلب عليها، فإن له أيضًا دوره الفعال في معرفة أمراض النفوس وكيفية معالجتها، وهذه هي حال المؤمن يكون فطنًا حاذقًا أعرف الناس بالشر وأبعدهم عنه.

إن النية الطيبة لابد وأن تقترن بالتربية والصقل، وبالإعداد اللازم لتتوفر لدى الإنسان الإمكانات التي تؤهل لنقل ما ينويه إلى حيز التطبيق.

5- تدريب القوى العقلية وتنشيطها للقيام بمهامها على الوجه الأكمل عن طريق اليقظة والتفكر والتأمل والاعتبار والتذكر.

فوقوع الابتلاء هو في الحقيقة نعمة من الله وفضل منه؛ لأنه يذكر الإنسان ويثبته على صراط ربه المستقيم، وعلى الإنسان أن يتذكر مصيره لو أنه تُرك لهواه بدون تذكرة: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ.  

6- تمحيص القلب وتزكيته.

إن للابتلاء دورًا عظيمًا في تمحيص القلب أي تخليصه من الشوائب غير الإيمانية، فإذا تمحص القلب وخَلُصَ قويت فيه دواعي الخشية والخوف والرجاء ونحو ذلك من الأحوال المحمودة، وإذا قويت هذه ضعفت للتو واللحظة أحواله المذمومة من نحو الوسوسة والغيظ والكبر والنفاق ونحوها، مما يعرف بأمراض القلوب وهي أعظم من أمراض الجسم.

اللهم أصلح فساد قلوبنا، وطهرها من الحقد والحسد والزيغ والضلال وأنرها بنور الإيمان والبصيرة يا رب العالمين. اللهم انصر عبادك الموحدين المجاهدين الصابرين.

احفظ بلادنا من كل شر ومكروه، وسائر بلاد المسلمين، اللهم احفظ ولاة أمورنا وارزقهم البطانة الصالحة وسائر أمور المسلمين، اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.

Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
free download udemy paid course
download micromax firmware
Download WordPress Themes Free
udemy course download free