اتصل بنا
مفهوم الأمن في الإسلام
21/04/2000

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى

الحمد لله وحده، المتفضل على عباده بنعمة العقل، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلًا ما تشكرون، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:

عباد الله: اتقوا الله وراقبوه ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾.

معاشر المسلمين: كان حال الناس في الجاهلية شر حال وأرذله، الغني يبطش بالفقير، والقوي يترفع على الضعيف، والنسيب يحتقر الوضيع، فلا تراحم ولا تواصل وأعظم من هذا ضلال القلوب عن طريق الهداية والرشاد، ولقد كان بعضهم يعبد الشجر، وبعضهم يعبد الحجر، بل قد اتخذت كل قبيلة صنمًا تعبده وترجوه وتخشاه.

ومن المضحكات أن الواحد منهم كان يصنع الصنم من التمر وإذا جاع أكله، كانت الكلمة فيهم للقوي، فإن سرق تركوه، وإن سرق الضعيف عاقبوه.

كانت العداوة تنشب بينهم لأتفه الأسباب وأحقرها، بل كانت الحروب الطاحنة تدور رحاها بينهم سنين عددا بسبب حمية عصبية أو فزعة ثأر قبلية.

والتاريخ خير شاهد على حرب داحس والغبراء، وما أهلكته من الحرث والنسل، بل قد ذكر التاريخ أن من ولد في أول الحرب أو في وسط زمانها قد شارك فيها لطول مدتها.

وبالجملة فقد كانت حياتهم مليئة بالتناقض والفوضى، فحدث عن الظلم ولا حرج، وحدث عن القطيعة ولا حرج، وحدث عن التناحر ولا حرج.

شاهد القول: أن الناس لم يعرفوا طعم الحياة وراحتها إلا بالإسلام، فبعد بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم، على حين فترة من الرسل، فأعاد الله به الناس إلى صراطه المستقيم ﴿صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ.

 

بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم فتلا عليهم آيات الله، وزكّى أنفسهم من أدران الشرك إلى طهارة الإيمان، ووضع عنهم الآصار والأغلال، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، وعلمهم الكتاب والحكمة، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ، وقال سبحانه: ﴿عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ ۖ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، وقال سبحانه: ﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾.

وبكل حال فلقد كانت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم رحمة من الله للناس، فاطمأنت قلوب من آمن به وسادت بينهم روح المحبة والإخاء، وتبدلت حالة الاستئثار بالشيء إلى الإيثار به، ودخل التواضع مكان التكبر، والأخوة مكان العداوة.

وبالجملة فلقد ساد المجتمع أمن الإسلام، فأصبح المجتمع الإسلامي في عهد النبوة خير مثال للمجتمع الآمن على دينه وعرضه وعقله ونفسه وماله.

وهذه الأمور الخمسة، دعت إلى حفظها جميع الأديان السماوية، وهي التي اصطلح العلماء على تسميتها بالضروريات الخمس، أو الكليات الخمس وهي: حفظ الدين، وحفظ العرض، وحفظ العقل، وحفظ النفس، وحفظ المال.

والناظر في نصوص الشريعة يجد أنها بإجمالها وتفصيلها تدعو لهذا المبدأ، وترغب في المحافظة عليه، وترهب من التفريط فيه أو في بعضه، والقاسم المشترك به- بعد فضل الله – تضمن المحافظة على تلك الضرورات الخمس هو: مسألة الأمن والأمان، فبالأمن يسود المجتمع الاطمئنان على حفظ دينهم وأعراضهم وعقولهم وأنفسهم وأموالهم.

ولذا جاء ذكر الأمن في القرآن في أكثر من موضع تنويهًا على أهمية منزلته وعظم شأنه، ولذا فقد كان من فقه إبراهيم الخليل عليه السلام عندما دعا لمكة – شرفها الله تعالى – فضمن دعاءه طلب الأمن لها، كما أخبر الله عنه: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾.

قال بعض أهل العلم: (إن طلب الأمن مقدم على طلب الغذاء، لأن الخائف لا يتلذذ بالغذاء، ولا يهنأ بالنوم ولا يطمئن في مكان، لهذا كما دعا خليل الله إبراهيم عليه السلام لمكة المشرفة قال: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾ فدعا بتوفير الأمن قبل توفير الرزق). انتهى كلامه.

وعند الكلام عن الأمن يقال: إن الأمن له ثلاثة أنواع: أمن في الدنيا، وأمن في البرزخ، وأمن في الآخرة.

فأما الأمن في الدنيا: فيمكن تقسيمه إلى قسمين أمن حسي وأمن معنوي.

فالأمن الحسي: هو الأمن على الأبدان والأموال والأعراض وغيرها، وذلك بتوفير الأسباب الكافية لقطع دابر أدنى خلل يعكِّر على حفظها، وهذا النوع من الأمن قد يشترك فيه المجتمع المسلم والمجتمع الكافر، إلا أن الذي ينفرد به المجتمع المسلم هو الجمع بين نوعي الأمن الحسي والمعنوي، ففي المجتمع المسلم يحفظ الإسلام لهم أموالهم وأعراضهم وأنفسهم وعقولهم، هذا من لوازم حفظ الدين.

وأما الأمن المعنوي: فهو اطمئنان القلوب وسكن النفوس إلى أمر ربها، والتنعم بالراحة النفسية التي ينشدها كل أحد، ولكنها لا تحصل لكل أحد، بل هي عطايا ربانية ومنح إلهية يتفضل الله بها على من تمسك بشرعه ونبذ ما سواه.

ومما يؤكد أن الأمن الحقيقي لا يكون إلا بطاعة الله تعالى في القول والعمل والسر والعلن، مما يؤكد هذا المبدأ العظيم قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾.

قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: (أي هؤلاء الذين أخلصوا العبادة لله وحده لا شريك له، ولم يشركوا به شيئًا، وهم الآمنون يوم القيامة، المهتدون في الدنيا والآخرة).

ومن الأدلة على ذلك أيضًا قوله تعالى عن حال قريش: ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ . الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ﴾.

قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: (أي تفضل عليهم بالأمن والرخص، فليفردوه بالعبادة وحده لا شريك له، ولا يعبدوا من دونه صنمًا ولا ندًا ولا وثنًا، ولهذا من استجاب لهذا الأمر جمع الله له بين أمن الدنيا وأمن الآخرة، ومن عصاه سلمهما منه، كما قال تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ …) إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى.

ومن الأدلة أيضًا قوله تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾.

قال ابن كثير: هذا وعد من الله تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض، أي أئمة الناس والولاة عليهم، وبهم تصلح البلاد وتخضع لهم العباد، وليبدلنهم بعد خوفهم أمنًا وحكمًا فيهم، وقد فعل تبارك وتعالى وله الحمد والمنة. انتهى كلامه رحمه الله تعالى.

فعُرف بهذه الأدلة وغيرها أن الأمن في الأوطان لا يكون إلا بتحكيم دين الإسلام والسير على نهجه، أما من استبدل الإسلام بقوانين وضعية ونظم بشرية، فلم ولن يحصل له الأمن التام، بل سيزيد خوفه وفزعه، وخير مثال شاهد ما يصيب الدول الكبرى من عدم استقرار الأمن، فحدّث عن هتك الأعراض وسفك الدماء وعن ضياع الحرمات، ناهيك عن ضياع الأواصر وانحلال الروابط، وهكذا كلما ابتعد الناس عن حكم الله فلن يهنؤوا بعيش ولن يدوم لهم أمن، بل ينقلب أمنهم خوفًا وسعادتهم شقاءً.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (فمن فر من حكم الله ورسوله أمرًا وخبرًا، أو ارتدَّ عن دين الإسلام أو بعض شرائعه، خوفًا من محذور في عقله أو عمله أو دينه أو دنياه، كان ما يصيبه من الشر أضعاف ما ظنه شرًّا في اتباع الرسول).

نسأل الله أن يحفظ بلادنا من شر الأشرار ومن كيد الفجار، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

 

 

الخطبة الثانية

الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد ألا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا، وبعد:

معاشر المسلمين: أما النوع الثاني من أنواع الأمن فهو:

الأمن في البرزخ، يعني القبر. وهذا الأمن مترتب على وجود الأمن الحقيقي في الدنيا، فإذا كانت حياة العبد مسخرة في طاعة الله تعالى، كان ميراثه منها الأمن في البرزخ وما بعده، كما قال تعالى: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ﴾.

أخرج البخاري في صحيحه عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سُئل في القبر شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله فذلك قوله: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ﴾.

فثبات المسلم على القول الثابت في قبره من أعظم أنواع الأمن، وممن خصوا بالأمن في قبورهم الشهداء، كما قال صلى الله عليه وسلم عندما سئل ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة» رواه النسائي عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

وفي حديث عبادة بن الصامت مرفوعًا: «للشهيد عند الله ست خصال، وجاء فيها: ويجار من عذاب القبر» أخرجه الترمذي وصححه ابن ماجه.

وأما النوع الثالث من أنواع الأمن فهو: الأمن في الآخرة: وأهل هذا النوع هم أهل السعادة والفوز، الذين وطنوا أنفسهم على مرضاة الله، ولم يدخروا وسعًا في مضاعفة السعي في تحصيل الخير ﴿لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا ۖ وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ﴾.

فهذا هو الفوز العظيم الذي يتنافس المتنافسون من أجله، لأنه أمن لا يعقبه خوف، وراحة لا يعقبها تعب ولا نصب، فنسألك اللهم أن ترزقنا الأمن الفكري والأمان في الحياة وعند الممات وبعد الممات. اللهم آمنا في أوطاننا، واكفنا شر كل ذي شر.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين وأذل الشرك والمشركين، اللهم أغث قلوبنا لطاعتك وهداك، واهد ضال المسلمين لطريقك القويم، وجنبنا الحرام، اللهم اغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، اللهم وفق ولاة أمرنا لما تحب وترضى وخذ بناصيتهم للبر والتقوى، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون. فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على آلائه يزدكم ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
free download udemy course
download mobile firmware
Premium WordPress Themes Download
free download udemy course